تقديم: دراسة
البحر الأبيض المتوسط فضاء متغير حسب وجهة النظر التي تتناولها الدراسة. لكنه أولا وقبل كل شيء بحر، حيث الملاحة التجارية مكثفة وليس فقط شواطئ مخصصة للسياح. إنه بحر عبور، نقل، ممر للتدفقات الاقتصادية القوية التي تهيمن عليها الهيدروكربونات. فيه ساحل صناعي وآخر لا.
بهذه المقدمة بدأ الدكتور صلاح نيوف بحثه المعنون ب “جيوبوليتك الصراع على الغاز في الحوض الشرقي للبحر المتوسط” ونشره مركز أسبار للدراسات بتاريخ 14/ آب
يناقش نيوف في مدخل بحثه المنظور الجيوبولتيكي للبحر الأبيض المتوسط عبر استذكار سريع للحضارات المتراكمة على المتوسط كونه مكان هام للتواصل بين الثقافات والأديان، لافتًا إلى أن البحر كان موقعًا للعديد من الحروب، بقيادة القادة الحريصين على توسيع سلطتهم.
التحليل الجيوسياسي للبحر الأبيض المتوسط يُواجه بصعوبات، وقد لخصها نيوف بثلاثة بنود، وأطلق عليها تشوهات، بدءًا من التشوه التاريخي، الذي يتمحور حول كتابة التاريخ من جانب واحد، مرورًا بالتشوه الجغرافي، عبر طرحه لتساؤل مؤّرق … هل البحر المتوسط واحد أم متعدد.. ليجيب : لا يوجد بحر متوسط واحد، بل فضاءات متوسطية متباينة للغاية، لينتهي بالتشوه الدلالي مسترشدًا بإطروحة المؤرخ فرناند برادويل عن وحدة المكان والزمان.
ينتقل د.صلاح إلى تقسيمات البحر المتوسط والدول التي تحده، عارضًا التنوع الكبير الذي أدى إلى مشاكل جيوبولتيكية، كما أورد التقسيم واجهتي البحر بين ” دول نامية ودول متطورة” أو ” شمال وجنوب.
يخلص نيوف في نهاية مدخله إلى نتيجة مفادها إن معظم التوترات الجيوبوليتيكة حول المتوسط هي التي تترجم التنافس بين السلطات المتجاورة “الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي”، الصرب/البوسنة، الأتراك /الأكراد ، الكتالان/الكاستيالان”. وهي في الواقع وفقًا للباحث، ليست الصورة التي نملكها عن البحر المتوسط بأنه صراع بين طرفيه الشمالي والجنوبي. “باستثناء تعقيدات العلاقات التاريخية ما بعد كولونيالية بين الجزائر وفرنسا”.
” جيوبولتيك الطاقة شرقي البحر المتوسط”
عنوان القسم الثاني من البحث، ويتناول تغييرات الطاقة شرق البحر، ويقسمه إلى ثمانية عناوين يبدأ فيها بسياق عام، ثم يعرض تقرير هيئة المسح الجيولوجي الأميركية، إذ قدرت، في تقرير لعام 2010 ، أن حوض المشرق لديه من موارد النفط غير المكتشفة المحتملة بمقدار 7.1 مليار برميل، والأهم من ذلك، موارد الغاز الطبيعي غير المكتشفة المحتملة 122 تريليون قدم مكعب ضمن هذا السياق بلغ إجمالي احتياطيات النفط المؤكدة في البلدان المدرجة في هذا التقرير ما يزيد قليلًا 5.2 مليار برميل في يناير 2013- منها 99.5 ٪تخص سوريا -واحتياطيات الغاز الطبيعي المؤكدة من 2.18 تريليون قدم مكعب. كما قدرت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية متوسط موارد سوائل الغاز الطبيعي المحتملة غير المكتشفة بنحو 1.3 مليار برميل.
ثم يورد عنوانًا فرعيًا عن الحوض الشرقي للبحر المتوسط، وهنا يتحدث الباحث بأنّ موارد الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط، ضمن السياق العالمي، تمثّل أقل من 1 في المائة من احتياطيات العالم المؤكدة.
ينتقل إلى إسرائيل منذ 2013 وحاجتها للاكتشافات الطاقية في البحر المتوسط، لتنال استقلاليتها الاقتصادية بعيدًا عن الاعتماد على دول الجوار، كونها أكبر مستهلك في شرق البحر، كما يعرّج الباحث على سوريا موضحًا أن القطاع النفطي يعيش في حالة فوضى كاملة منذ 2011.
في المحطة السادسة، يتحدث الباحث عن قبرص واليونان … الغاز والبترول والجيوسياسة، لافتًا إلى أن الاكتشافات الطاقية الحديثة دفعت إلى السعي نحو زيادة التكامل في حوض المتوسط. من خلال إبرام اتفاقيات ميدانية تتجاوز النزاعات التاريخية، لتحسين إدارة المصالح الاقتصادية وكان الأهم الاتفاقية الموقعة بين إسرائيل واليونان وقبرص لبناء خط أنابيب غاز يربط الحقول الإسرائيلية بالسوق الأوروبية.
المحطة السابعة، يناقش فيها دور الفاعلين الدوليين” روسيا وأوروبا” في الاكتشافات الطاقية، ويوضح التخوّف الروسي من تأثير الاكتشافات على هيمنتها على سوق الغاز، خاصة في إمداد أوروبا، الأمر الذي دفعها لتحتل موطئ قدم في حالة حقل Zohr، وهو الحقل المصري الذي دخل في الإنتاج في ديسمبر 2017 ،واستحوذت فيه شركة النفط الروسية Rosneftعلى 30 ٪في كونسورتيوم إلى جانب مجموعة ENI الإيطالية 60% ومجموعة 10 pb
يعتقد الباحث أن الرأي القائل بالقدرة المفترضة لهذه الاكتشافات على إعادة هيكلة الجيوبوليتك الإقليمي أو للحد من واردات الاتحاد الأوروبي من روسيا، هو رأي مبالغ فيه، مشيرًا إلى احتمالية أن تظل روسيا المورد الرئيسي للغاز حتى نهاية عام 2020.
بالنسبة للاتحاد الأوروبي كان حذرًا ولم يوقع على اتفاقية خط الأنابيب Med East .حيث اعتبر أنّ هناك حاجة لمزيد من استكشاف التكاليف والفوائد، ولم يدعم المشروع أي من المؤسسات الأوروبية حيث يعتقد الاتحاد بحلول بديلة في مصر، التي لديها محطتان للغاز الطبيعي المسال لتحويل ونقل الغاز الطبيعي المسال.
ينتقل الباحث في نهاية محطاته إلى المحطة الثامنة وهي مشروع خط غاز Med East وهو مشروع بين أثينا وقبرص وإسرائيل، يبلغ طوله حوالي 2000 كيلومتر، والذي سيكون جزءًا كبيرًا منه تحت البحر، وينقل ما بين 9 مليارات و11 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًا من الاحتياطيات البحرية إلى قبالة قبرص وإسرائيل إلى اليونان، ثم إلى بقية دول الاتحاد الأوروبي.
لكن إيطاليا، التي لم تكن ممثلة في أثينا يوم التوقيع، أعربت بالفعل عن اهتمامها بالانضمام إلى المشروع في مرحلة لاحقة. كما يورد نهم تركيا للتنقيب في المتوسط وإثارتها للتوتر مع اليونان.
في القسم الثالث من البحث يناقش الباحث التحالف القبرصي اليوناني الإسرائيلي منذ 2010 في علاقات جديدة واستراتيجية تقوم على المصالح المشتركة للأمن والطاقة. وكانت حماية الكميات الهائلة من الغاز الطبيعي التي تم اكتشافها في المناطق الاقتصادية الخاصة EEZ لقبرص وإسرائيل هي غراء الروابط القوية المتزايدة بين الدول الثلاث.
وقع كل من اسرائيل اليونان على ميثاق دفاع واتفاقيات منطقة اقتصادية خاصة لحماية أصوله، وأثار بدء أعمال الحفر الاستكشافية في المنطقة الاقتصادية الخاصة القبرصية “EEZ ” غضب القادة الأتراك.
ينتقل الباحث ليتحدث عن تركيا: جيوبوليتك الطاقة في المتوسط، يشرح نيوف بأن هدف تركيا تحولها من ممر عبور للطاقة إلى مركز ومحور للطاقة، موضحًا الفرق بين المصطلحين.
تشير حالة عبور الطاقة إلى حالة يتم فيها وضع خطوط أنابيب الطاقة لربط حالة إنتاج الطاقة بحالة استهالك الطاقة. ويتم إبرام اتفاقيات بين منتج الطاقة ودولة العبور التي تجمع بموجبها الأخيرة عائدات العبور للسماح بنقل الهيدروكربونات عبر أراضيها. قد تسمح الترتيبات أيضًا لدولة العبور باستخدام، ربما بسعر مخفض، جزء من النفط أو الغاز المنقول عبر أراضيها لتلبية احتياجاتها من الطاقة. أما في حالة مركز/محور/عقدة الطاقة يكون بأن تشتري دولة الطاقة من حدودها ثم تعيد تصديرها إلى مشترين آخرين. وبذلك، فإنه يحدد شروط البيع )نظريًا( بشكل مستقل عن المنتجين الأصليين والمشترين النهائيين. عنصر آخر لمحور الطاقة هو البنية التحتية الأكبر التي تم إنشاؤها للمنتجين لإنتاج البتروكيماويات للتصدير. يتطلب مركز الطاقة بيئة مادية وافتراضية أكثر تطوراً والمستهلكين لالتقاء والتفاعل باستخدام التسهيلات التي يوفرها البلد المضيف.
يعتمد حلم تركيا في أن تصبح مركًزا للطاقة، للغاز الطبيعي إلى حد بعيد على استكمال TANAP وهو مشروع خط أنابيب ضخم يهدف إلى نقل الغاز الطبيعي من منطقة بحر قزوين إلى الدول الأوروبية. وهي واحدة من أكثر سلاسل الغاز تعقيدًا التي تم تطويرها على الإطلاق في العالم. يمتد على 3500 كيلومتر، ويعبر سبع دول ويشارك فيه أكثر من اثنتي عشرة شركة طاقة كبرى، ويتألف من عدة مشروعات طاقة منفصلة تمثل استثمارات إجمالية تبلغ حوالي 45 مليار دولار.
لقد أدى إلغاء مشروع نابوكو بالفعل إلى تضاؤل أمل تركيا في أن تكون بمثابة دولة عبور وأن تصبح في النهاية موقعًا مركزيًا لتجارة الطاقة.
ترفض تركيا الاتفاقات القبرصية اليونانية مع إسرائيل ولبنان ومصر نيابة عن الجزيرة بأكملها، والتي تعزل مصالح الجانب التركي. لذلك ركزت تركيا على حماية ليس فقط مطالباتها على المستوى القاري، ، ولكن أيضًا مطالبات جمهورية شمال قبرص التركية.
خلاصة مختصرة
ينهي د. نيوف بحثه بخلاصة، بأنّ جميع النتائج تشير إلى أنه من المحتمل ألا تقدم خطوط أنابيب الغاز في منطقة شرق البحر الأبيض طريقا للسلام؛ بل هي أكثر دفعا لإثارة التوترات السياسية ما لم يتم اتخاذ خطوات بناءة عبر شراكات أكثر شمولًا حتى إذا أصبحت خطوط الأنابيب هذه عاملة، تضم جميع الأطراف المشاطئة المعنية، فمن المحتمل أن تكون هناك مخاطر عالية للتوزيع دون توافق سياسي.
وعلى عكس الآمال والتوقعات الأولية، فإن اكتشاف الهيدروكربونات في شرق البحر الأبيض المتوسط لم يحفز -بعد -السلام في المنطقة. لا ينبغي أن يكون هذا مفاجئًا نظرًا إلى أن البلدان الغنية بالموارد الطبيعية هي عمومًا أكثر عرضة للصراعات، خاصة في البيئات الجيوسياسية.
لعبت الطاقة -إلى جانب عوامل أخرى -بالفعل دورًا مهًما في تكوين شراكات ثالثية، ولكن فقط بين جهات فاعلة معينة، مما ساهم في تطوير ميزان القوى في شرق البحر الأبيض المتوسط.
لم تكن النتيجة ظهور السلام ولكن إعادة تشكيل الصراع وخلق توتر ثنائي القطب ” إقليمي” جديد: أحد أقطاب القوة هو تركيا واستراتيجياتها القسرية في كثير من الأحيان فيما يتعلق بالتطورات “الطاقة” في شرق البحر الأبيض المتوسط؛ ويتكون القطب الثاني من الشراكات الثالثية المختلفة بين قبرص ومصر واليونان وإسرائيل.
الدراسة كاملة : اضغط هنا
أضف تعليقًا