الأرشيف

عمود

مرآة الجفاف في سوريا

عاصفة رملية شمال شرقي سوريا. الصورة: روكو باليرمو
عاصفة رملية شمال شرقي سوريا. الصورة: روكو باليرمو

سوريا _اللاذقية

ركّزت الحكومات السورية المتعاقبة لسنين طويلة على الكثافة السكانية الأعلى والثقل الاقتصادي السوري (حلب ودمشق)، وتجاهلت بشكل غريب باقي الجغرافيا، بهدف تحقيق الاستقرار، لكن أزمة العام 2011 تثبت بما لا يقبل الشك أن هذا التركيز لم يحقق أي نوع من الاستقرار، بل جعل البلاد تتجه لهاوية لا يبدو الخروج منها بهذا اليسر.

هذا لا يعني أن الحكومات لم تقم بمشروعات زراعية كبيرة في البلاد، ولكن السؤال الجوهري حول فاعلية التخطيط والتنفيذ وقابليتها للاستدامة.
في عام 2006، كانت دورة الجفاف الأقسى والأكثر تدميرًا على المناطق الزراعية وخصوصًا منطقة الجزيرة الفراتية، التي جرت فيها الأنهار منذ فجر التاريخ، وتعد سلة غذاء سوريا، بدأت أنهار المنطقة تذوي بتسارع كبير من الفرات إلى الخابور والجقجق.

وكتردد لصدى الاحترار العالمي، انتشر التصحر بشكل أوسع وقلت المساحات القابلة للزراعة، وهذا لم يقتصر على الجزيرة، بل امتد ليشمل معظم أنهار سوريا وكثيرًا من أراضيها. وفقاً للأمم المتحدة والاتحاد الدُّوَليّ للصليب الأحمر، أثرت دورة جفاف عام 2006 على 60 بالمئة من الأراضي السورية، وتضرر ربع سكان منطقة الجزيرة (واحد مليون من أصل أربعة ملايين)، وفقد مئات الآلاف مورد زرقهم، ولا يمكن نكران لمسة الحكومة السحرية التي حررت أسعار الوقود الأساسي لعمليات الري والخدمات الزراعية في نفس الفترة القاسية.

سبّبت هذه التغيرات موجة هجرة ضخمة، اتجهت نحو ريفي حلب ودمشق، مع ما يحمله ذلك من ضغوطات على بيئات غير مستعدة لتحمل هذه الأعداد الكبيرة، فضلًا عن كونها غير مخدمة بما يكفي لساكنيها الأساسيين. لقد حذّرت منظمة الأمم المتحدة من أن المياه ستصبح أزمة مستقبلية، لتجعل 40 بالمئة من المناطق المروية خارج قدرة الإرواء، وأن سكان المناطق المعتمدة على السقاية سيهددهم خطر الجوع.

فشل حكومي

تزايد عدد الخبراء الذين يعزون انطلاق الاحتجاجات في العام 2011 إلى أزمة الجفاف التي ضربت سوريا منذ عام 2006، مع فشل الحكومة في استباق المشكلة أو معالجتها أو حتى تخفيف حدتها. ووفقًا لدراسة نشرها الباحث “جون وتربري” عام 2013، إن موجة الجفاف حولت الأراضي الزراعية في شرق سوريا إلى أرض قاحلة، التي كانت تعيل نحو 800 ألف شخص، بالإضافة إلى نفوق أو بيع 85 بالمئة من الثروة الحيوانية.

كما تراجعت الهطولات المطرية والموارد المائية الناجمة عنها مع استمرار ظاهرة الجفاف. ويظهر ذلك في اتساع مساحة الصحراء السورية بنسبة 6 بالمئة عن مساحتها في عام 1970 (الصحراء منطقة تقل نسبة الأمطار فيها عن 200 ميليمتر سنوياً). كما ازدادت مساحة المنطقة المهددة بالتصحر 51 بالمئة. وخلال خمسين سنة منذ عام 1961 حتى بداية 2011 توالت 21 سنة جفاف أي 42 بالمئة من هذه السنوات، ولا تستطيع أي بيئة الاستمرار في وضع كهذا إلا بواسطة برامج زراعية مخطط لها وبتغيير نمط الإنتاج في الزراعة وتربية الحيوانات.

بدأ الاتجاه الحكومي يتغير ويميل نحو اقتصاد السوق الاجتماعي، وعلى هذا تقليص الدولة لدورها التنموي، ولم تعد المنطقة الشِّمالية الشرقية محط الاهتمام، على الرغمَ من أن مساحتها تقارب 40 بالمئة من مساحة سوريا, وتشمل جزءاً كبيراً من حوض الفرات وسهول حلب وحوض دجلة وكامل مساحة حوض الخابور في سورية. وتُقدرُ المساحة القابلة للزراعة في المنطقة بنسبة 43 بالمئة من مساحتها الكُلْيَة، ما يمثل أكثر من ثلثِ المساحة القابلة للزراعة البعل في سورية، وأكثر من نصف مساحة زراعتها المَروية.

تعتبر الزراعة المروية المعتمدة على مياه الأنهار والآبار العماد الرئيس للإنتاج الزراعي، وهي بالعموم زراعة موسمية. ويعد القمح والقطن المنتجين الرئيسين للمنطقة سابقاً، وساهمت المنطقة بين العامين 2002-2007 بإنتاج 55 بالمئة من مجمل محصول القمح السوري، وأكثر من 70 بالمئة من إنتاج القطن. فضلا عن تركز قطعان الماشية فيها. والمنطقة هي المنتج الرئيس للنفط والغاز في البلاد.

التصحر

كان أثر الجفاف قاسياً في منطقة الشمال الشرقي. وبدأت المنطقة منذ عام 2000 بانحدار متسارع نحو الفقر، بسبب استنزاف احتياطات المياه الجوفية، وسلسلة من المشروعات الزراعية التنموية سيئة التخطيط، والجفاف الذي ضرب في عام 2006 توج ذلك الانحدار. فقد سلّط الضوء على الأزمة الإنسانية المتمثلة بارتفاع معدّلات الفقر. فالأزمة التي تلت جفاف 2006-2010 يمكن النظر إليها على أنها نتيجة 50 عام من سوء الإدارة طويل الأمد لموارد المياه والأرض.

وفقاً لعالمة البيئة جيانلوكا سيرا، التي عملت على عدة مشروعات تعنى بالحفاظ البيئي في السهول السورية بين العامين2000-2010، «المزروعات في الصحراء تتكيّف بشكل طبيعي مع فترات الجفاف والرطوبة. في حال وجود نظام بيئي صحّي، يمكن للنبات التعاطي مع حالات الجفاف الطويلة». وتجارب عقد كامل في محميّة “التليلة” الطبيعية في سوريا، أظهرت بنتيجتها أن سوء الإدارة والاستغلال المفرط للموارد هما أساس مشكلة التصحّر، لا الجفاف ولا تغيّر المناخ. وبين العامين 2000-2010 أيضاً أنشأ باحثون سياجات محميّة يمنع الرّعي داخلها أو يقنن, بينما سُمح بالرعي في المناطق المحيطة. والنتيجة أن النباتات انتعشت داخل السياجات بشكل كامل وشكلت مراعٍ خضراء، بينما استمرّت الصحراء بالانتشار خارج المحميّة.

إن الدور الذي لعبه تغيّر المناخ في إشعال الازمة السورية موضوع جدل متزايد. يمكن أن يكون تغيّر المناخ قد ساهم في مفاقمة آثار الجفاف، ولكن المبالغة في أهميته هي صرف نظر عن جوهر المشكلة وهي سوء الإدارة طويل الأمد للموارد الطبيعية. والتركيز المبالغ فيه على تغيّر المناخ يرفع مسؤولية إنهاك موارد سوريا الطبيعية عن عاتق الحكومات السورية المتعاقبة منذ الخمسينيات من القرن الماضي، بالرغْم أن تغيّر المناخ لم يسبّب وحده صراعاً أو اضطراباً، ولكنه أدّى دوراً مؤججاً. هذا يؤكّد أيضاً صعوبة التنبّؤ بالتأثير المستقبلي لتغيّر المناخ، ليس فقط على البيئة بل أيضاً على الصراعات والاضطرابات الاجتماعية والسياسية.

إن تغير المناخ قد يسبّب جفافاً أكثر تواتراً وشدةً في سوريا، ولكن الفشل المستمرّ في ترشيد استخدام المياه وعدم تغيير نمط الإنتاج الزراعي والحيواني يشكل خطراً أكبر على الموارد الطبيعية. بدلاً من قراءة الجفاف في 2006-2010 في شمال الشرق السوري كمؤشر للصراع وتغيّر المناخ، يجب دراسته كخلفية لسنوات من الإدارة السيئة والسياسات الاقتصادية الفاشلة والفقر المنتشر في الأرياف، التي بدورها غذّت سخطاً كان موجوداً مسبقاً.

الحفّار

فريق التحرير

أضف تعليقًا

اضغط لإضافة التعليق