سام البحيري _ اللاذقية||
غالباً ما يسلط الضوء على أهمية مواقع الدول أو ما اصطلحه الكاتب المصري جمال حمدان تحت اسم عبقرية المكان، ولكن فيما يخص كازاخستان يمكن وصفه بعبء الجغرافيا، وعلى الرغم من المساحة الهائلة – 2,725 مليون كيلومتر مربع – وغناها بالموارد الأولية فهي أكبر دولة حبيسة في العالم (بحر قزوين غير مفتوح على بحار أخرى). يعتبر مناخ كازاخستان شديد القسوة خصوصاً في المناطق الشِّمالية، حتى هذه الصعوبات يمكن التعامل معها، ولكن أن تكون هذه الدولة جارة لروسيا فهذه معضلة ليس لها حلول. لقد احتلت روسيا القيصرية أرض الكازاخ على مراحل وفي منتصف القرن التاسع عشر احتلت كامل كازاخستان الحالية.
إن السهوب البكر الهائلة التي ميزت كازاخستان طبعت الشعب بصفاتها، فهي وفيرة وقاسية سمحت لهم بتشكيل قطعان كبيرة والرعي من دون حدود، بالتالي حياة بدوية وحرية هادئة، لكن روسيا هنا الآن، ومنذ عام 1927اتبعت الحكومة السوفيتية سياسة صارمة لتحويل الكازاخيين الرحل إلى سكان مستقرين واستعمار المنطقة بالروس والأوكرانيين. واستلزم هذا الاستيطان عمليات ترحيل وتضييق، وعملت على إبادة قطعان الماشية التي يعيش عليها هذا الشعب الرعوي، لإجبارهم على التحضر والعمل بالزراعة.
نُفذت هذه السياسة في عهد ستالين والنتيجة حدوث المجاعة الكازاخستانية 1931-1933، التي تعد أحد الأعمال المروعة للحكم السوفيتي، إذ أدت إلى وفاة 1.5 مليون شخص، كما كانت كازاخستان منذ عهد القياصرة منفى للشعوب المضطهدة والسياسيين الذين رُحلوا إلى هناك، حيث كان يوجد في البلاد بعض أكبر معسكرات العمل السوفيتية الوحشية المعروفة باسم (غولاغ)، التي فضحها الكاتب الروسي ألكسندر سولجينيتسن بعمله الخالد أرخبيل الغولاغ.

(الصورة © Aureliy)

واستمرت الدولة السوفيتية في تجاربها، عبر حملة لزراعة الأرض العذراء، التي أطلقها الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف في شمال البلاد في خمسينيات القرن العشرين، وذلك لزراعة ملايين الهكتارات من الأراضي البكر ورغم نتائج الزراعة الجيدة لعدة سنوات إلا إنها تحولت إلى تجرِبة مريرة أيضاً، بسبب سرعة التخطيط وسوء التنفيذ ومحدودية القدرات، على سبيل المثال كان يخصص جرار واحد (إن لم يتعطل) لـ 200 هكتار.
كانت كازاخستان أخر جمهورية سوفيتية أعلنت استقلالها، وعلى عكس أغلب الجمهوريات الأخرى لم تعانِ اقتصاديًا بشكل حقيقي لاحتوائها على ثروات استخراجية هائلة وعدد سكان يبلغ 18 مليون نسمة، وبالنسبة لمساحتها تعد من أقل الكثافات بالعالم. وسهوب كازاخستان ليست صحراء قاحلة، بل تسقط عليها ثلوج وأمطار تسمح بنمو المراعي الواسعة التي يمكن أن تتحول إلى أراضٍ زراعية جيدة لزراعة العديد من المحاصيل، خاصةً القمح.
ساعدت هذه الموارد نظام الرئيس السابق نور سلطان نزار باييف على الاستقرار وتحقيق نمو اقتصادي كبير للبلاد، ومنذ استقلالها لم تجرؤ كازاخستان على تحد موسكو مثل أوكرانيا وجورجيا أو الابتعاد عنها مثلما فعلت أذربيجان. في ضوء هذا الموقف، عدّتها موسكو نموذجًا ناجحًا للنفوذ الروسي في جمهوريات آسيا الوسطى، بالتالي حاولت تعميم هذا النموذج على مجمل دول الاتحاد السوفييتي السابق. ومنذ عام 2004 تدفقت استثماراتٌ أجنبية تقدر بعشرات مليارات الدولارات إلى شرايين الاقتصاد، بالأخص فيما يتعلق بالنفط والغاز والمواد الاستخراجية، فهي تحوي 3% من نفط العالم وتنتج 1,6 مليون بِرْمِيل يومياً ويشكل النفط 21% من الناتج الداخلي.
سهلّت هذه الأموال والأوضاع المستقرة على الرئيس السابق نزار باييف فرض نظام أمني صارم، وأغرته كذلك بالتوسع في المشروعات العملاقة، على رأسها عاصمة جديدة سماها أستانا، وفيما بعد سميت باسمه نور سلطان. أدى هذا الاستقرار والأموال إلى زيادة كبيرة في أعداد الشركات التي أسست في كازاخستان، كما تعتبر أرض تعدين العملات المشفّرة بسبب أسعار الكهرباء المتدنية، وهي إلى ذلك جوهرية ضمن مشروع الحزام والطريق الصيني لمرور البضائع إلى أوروبا، وهي ممر للغاز والنفط الروسي والكازاخي إلى الصين، كل هذا أدى إلى تدفق الأموال إلى الدولة ونخبها.



الصورة: فاليري شريفالين / تاس.

تزايد النفوذ الصيني اقتصادياً في كازاخستان بشكل كبير، ولكن بطريقة لا تُغضب موسكو، ولاسيما أن مصلحة بكين الأساسية في المنطقة متطابقة مع مصلحة روسيا بدعم الأنظمة الاستبدادية في آسيا الوسطى، بالنسبة للصين فهي سوق مهم وقريب لمنتجات بكين ومورّد للمواد الخام، وبلد يحكم من نظام علماني متطرف. وبالنسبة لروسيا فإن كازاخستان نموذج لما تريده لبقية دول آسيا الوسطى، دولة غنية تابعة تستورد المنتجات الروسية وسلطوية، وتتعاون في كل المجالات الأمنية والسياسية.
الثروات
تنتج كازاخستان 1,6 مليون بِرْمِيل في اليوم ينتج عنها سنوياً 23,7 مليار دولار، ومن إمدادات الغاز لدول أخرى 2,5 مليار دولار، ومن خام النحاس ومنتجاته 4,25 مليارات دولار، ومن الحديد والصلب 3,18 مليارات دولار، ومن اليورانيوم 1,71 مليار دولار، حيث تحتوي على 12% من احتياطي اليورانيوم في العالم بالإضافة إلى ثروات أقل أهمية.
حال الشعب
أدى النمو الاقتصادي الريعي القائم على استخراج المواد الأولية إلى حدوث تضخم كبير، لأن البلاد تستورد كل شيء تقريباً من الخارج في مقابل تصديرها النفط والغاز والقمح. وعلى الرغم من أن البلاد غنية بالنفط والغاز، فإن شعبها يعاني الفقر والديون. يعد مبلغ 100 دولار شهرياً هو الحد الأدنى للأجور في دولة تعتمد على الاستيراد في تلبية احتياجاتها الأساسية، ما يجعل هذا المبلغ مناسباً للكفاف، بينما يشاهد الشعب النخب المترفة المقيمة في العاصمة تعيش حياة باذخة. ولا حاجة لمحاولات رصد الفساد فهو موجود في كل مكان، حيث حاز أولاد وأقارب نزار باييف بالإضافة إلى النخب الثرية على حصة الأسد من كل شيء، بينما عانى أكثر الشعب من تأمين متطلباته، وهم يرون ثروات بلدهم تتركز في أيدٍ قليلة، كما عزز التفاوت بين المناطق النقمة وعدم الانسجام الداخلي.
الإعلام
أقرت الحكومة في عهد الرئيس السابق نزار باييف تعديلاتٍ وفيها شددت القيود على تغطية الصحفيين للأخبار في كازاخستان. وحظر على المواطنين أن ينشروا تعليقات مجهولة المصدر على المواقع الإلكترونية الإخبارية. كما شدد الرئيس الحالي توكاييف الرِّقابة على الإعلام نتيجة الاضطرابات الأخيرة.
إن نموذج توفير الاستقرار عبر القمع، ومنع الصراعات بين الإثنيات المتنوعة خاصةً الروس والكازاخ، أخفى إخفاقات كبيرة مثل معاناة الشرائح الأفقر والفروق الكبيرة في الدخل والاقتصاد الاستهلاكي، ورغبات الشعب الطبيعية في التعبير عن أنفسهم فضلًا عن الديمقراطية.
يجري الآن ترتيب البيت الداخلي عبر إقالة المسؤولين المحسوبين على الرئيس السابق وتعيين آخرين محسوبين على الرئيس الحالي، وبعد أن بدا أن التاريخ غير مساره في كازاخستان منذ الاستقلال، تعود الجغرافيا لتؤكد نقمتها على هذا البلد، حيث تدخلت روسيا تحت غطاء منظمة الأمن والتعاون الجماعي لوأد الاحتجاجات بداية العام 2022 ولم تسمح بتحوّلها إلى فرصة لتحقيق بعض العدالة وتوسيع الحريات، من الواضح أن النار التي أخمدت على عَجَلَة بمساعدة روسية ودعم صيني ما يزال الجمر قابعاً تحتها
أضف تعليقًا