الأرشيف

تقرير عمود

قلب روسيا التاريخي

شرطة مكافحة الشغب ونشطاء تتر القرم أمام محكمة كييف الجزئية في سيمفيروبول. القرم ، 17 فبراير 2021. © 2021 Crimean Solidarity
شرطة مكافحة الشغب ونشطاء تتر القرم أمام محكمة كييف الجزئية في سيمفيروبول. القرم ، 17 فبراير 2021. © 2021 Crimean Solidarity

أوكرانيا

“جورج عليك أن تفهم أن أوكرانيا ليست حتى دولة فجزء من أرضها في أوروبا الشرقية، ونحن منحناها الجزء الأكبر من أراضيها”. هذا القول يعود للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لكن ليس الآن، بل في عام 2008 بعد إعلان حلف شمال الأطلسي بدء الطريق لانضمام أوكرانيا وجورجيا، إنه قول كاشف لكل المرحلة الحالية وربما المستقبلية.

تشكل أوكرانيا أساساً لهوية روسيا ونظرتها لنفسها، فنشأة الهوية والأمة الروسية الأولى كانت في أوكرانيا وعاصمتها كييف، حتى إن اسم روسيا جاء من اسم “روس كييف”، التي كانت أول دولة سلافية شمالية.

يعتبرها الروس الدولة الأساس قبل أن ينتقل المركز الحضاري إلى موسكو بسبب الغارات المغولية. دعمت الهوية السلافية في كييف خلال القرنين التاسع والعاشر حيث جرى تبني المسيحية الأرثوذكسية (بتأثير من بيزنطة). كما يوجد تأثيرات تترية وبولندية نتيجة وقوعها تحت سيطرة التتار والبولنديين لقرون قبل أن تقع تحت سلطة روسيا القيصرية، حيث فُرض التأثير الروسي إذ استمر حتى نهاية الإمبراطورية السوفيتية.

ووفقاً لتعداد عام 2001 يوجد أكثر من ثماني ملايين من أصل روسي يعيشون في أوكرانيا، معظمهم في الجنوب والشرق، والتقديرات تشير إلى أن الروس يُقّدرون بــ 17% من السكان البالغ عددهم 48 مليوناً. كانت اللغة الروسية هي اللغة المستعملة فعلياً خلال العهد السوفيتي بالرغْم من أن الأوكرانية هي اللغة الرسمية ولكن الروسية كانت أكثر انتشاراً، وفي عام 2001 كان نحو 30% من السكان يتكلمون الروسية كلغة أولى, تنتشر اللغة الروسية في جنوبَ وشرق البلاد وبصورة أقل في الشمال, بينما اللغة الأوكرانية في وَسَط وغربي البلاد.

وفي كل المناطق التي تزداد فيها اللغة الاوكرانية يزداد الشعور القومي والخطاب المناهض لموسكو, ومن أخطر عوامل الانقسام داخل أوكرانيا أن كل منطقة لها ذاكرة جمعية مختلفة نتيجة علاقاتها الثقافية ووقوعها تحت السيطرة الروسية والبولندية والنمساوية الهنغارية. لدى أوكرانيا وروسيا روابط ثقافية عميقة وعلاقات اقتصادية وتداخل سكاني، فأوكرانيا كانت دوماً أرضاً انتقالية بين روسيا وبقية أوروبا، وبقدر ما توجد تأثيرات أوروبية كبيرة، فإنها في الواقع جزء من مثلث العالم السلافي الشمالي وضلعاه الآخران هما روسيا وروسيا البيضاء. ولكن الكثير تغير بعد عدوان روسيا عام 2014.

تعرضت روسيا للغزو مرات عدّة من القبائل المغولية إلى نابليون وهتلر، ولكن في كل مرة بالرغم من الخسائر كانت النهاية تتكلل بالنصر، بينما ترك تحطم الاتحاد السوفيتي ندوباً عميقةً في وجدان النخب الروسية لم تشفَ وإن اضطروا إلى الاعتراف بالدول السوفيتية السابقة؛ فإنهم يرونها ضمن مجالهم الحيوي أو يجب أن تبقى تحت نفوذهم، لذلك تحاول روسيا الحفاظ على نفوذها السياسي في جميع دول الاتحاد السوفيتي السابق.

لم تحظ أهمية أوكرانيا الاستراتيجية بالعناية الكافية فمن دونها ستكون روسيا دولة أكثر أسيوية. يخشى بوتين من أن أوكرانيا المهمة استراتيجياً والواقعة على الجناح الغربي لروسيا ستندمج أكثر مع الغرب، ويعترض على تعاونها وانضمامها للناتو، كما يعارض تطوير أوكرانيا لعلاقاتها بالاتحاد الأوروبي. لقد قلل الغرب من المهانة العميقة لروسيا لفترة طويلة نتيجة توسع الناتو نحو حدود روسيا في العقود التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفيتي السابق، وترى روسيا الناتو على حدودها تهديداً وجودياً. وتنظر روسيا إلى انضمام أوكرانيا للناتو بشكل مشابه لموقف أميركا من نشر الصواريخ السوفيتية في كوبا في عام 1962.  

ولا يمكن إهمال أهمية أوكرانيا في مجال تصدير الغاز والنفط الروسي إلى أوروبا، حيث تحوي الشبكة السوفيتية القديمة ورغم تشغيل روسيا السيل الشمالي الأول وبناءها للثاني (أوقفت ألمانيا مصادقته)، والسيل التركي ما يزال يمر عبرها ثلث الغاز الروسي وأكثر من نصف النفط إلى أوروبا، وقد زودت روسيا أوكرانيا بمعظم احتياجاتها من الغاز حتى غزو القرم، وبعد ذلك تراجعت هذه الواردات ثم توقفت تماماً في عام 2016. تتلقى أوكرانيا نحو 1.5 مليار دولار على الأقلّ سنوياً من العائدات التي تجنيها لقاء مرور الغاز الروسي عبر أراضيها، وهي تخشى أيضاً من خسارتها لأداة ضغط دبلوماسية في مواجهة موسكو، وتجني أوكرانيا أكثر من مرور النفط، كما مدد الروس بضغط من برلين توريد الغاز والنفط عبر أوكرانيا حتى عام 2024 قابلة للتمديد عشر سنوت أيضاً.

الأضرار الناجمة عن قصف روضة أطفال في مستوطنة Stanytsia Luhanska، أوكرانيا، 17 فبراير / شباط 2022. © 2022 Anton Skyba لـ هيومن رايتس ووتش

وفقاً للرواية الروسية يذكر المسؤولون الروس بوعد وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر للزعيم السوفيتي غورباتشوف في عام 1990 بأن الناتو لن يتحرك شرقاً إذا سمح الاتحاد السوفييتي بإعادة توحيد ألمانيا. وينظر المسؤولون الروس إلى أوكرانيا بشكل مصيري، وتفوح منهم روائح استعمارية ولا يخفونها كثيراً، وما حديث بوتين بعد اعترافه بجمهوريتي (دونيتسك ولوغانسك) عن الأراضي الروسية التي منحها لينين في شرق أوكرانيا وخروتشوف الذي منحها القرم سوى ما يسعون لتنفيذه عاجلاً أو أجلاً. وعلى هذا، كل الحديث عن استقلال أوكرانيا يَجِبُ ألاّ يؤخذ على محمل الجِدّ، بما في ذلك بيان الخارجية الروسية بضرورة الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية بكييف.   

 من الملفت أن بوتين خصص معظم وقت خطاب الاعتراف بالدولتين لتثبيت سرديته التاريخية بدلًا من التركيز على الحاصل اليوم، إذ استخدم الحرب عبر السرديات “narrative warfare” كحرب إعلامية مضادة بواسطة تزويد الجمهور بقصة معينة، ليمكن شحنهم لمحاربة الخصوم. بوتين لم يكن يعطي درساً في التاريخ كما اعتقد البعض، بل كان يستخدم سردية معينة كأداة للحرب لثني الأوكرانيين عن قتال روسيا، ولحشد الروس لدعم توجه حكومتهم، وللجم الخطابية الغربية المناوئة، إذاً هي حرب أفكار، قبل أن تبدأ الحرب الحقيقية التي بدأت اليوم فعلاً.

وائل رئيف سليمان

محرر صحفي، مترجم ومدير محتوى. حاصل على إجازة في الإعلام من كلية الإعلام والصحافة في جامعة دمشق 2005/2006. عمل محررا وكاتبا في الشؤون الدولية ومدير تحرير ومحتوى في وسائل إعلام سورية وعربية.

أضف تعليقًا

اضغط لإضافة التعليق