الأرشيف

السلايد الرئيسي عمود

بوتين الطامح وأوكرانيا البعيدة القريبة.. التاريخ يمكر بالجميع

بوتين أوكرانيا خرائط القرم
© Ingram Pinn

“المعضلة الحقيقية في علاقتنا بالولايات المتحدة محورها اعتقادهم أن الحرب الباردة انتهت بانتصارهم وهزيمتنا، ولذا يتبنون سلوك المنتصر ويتوقعون منا سلوك المنهزم، نحن نرى أن الحرب الباردة انتهت من دون إطلاق نار، ومن دون منتصر ولا مهزوم” هذا ما قاله دبلوماسي روسي في واشنطن لمستشار الأمن القومي السابق زبغنيو بريجينسكي.

يعتقدُ هيغل أنّ التاريخ لا يُسيّرهُ الأفراد، بل هو نفسه الّذي يتحكّم فيهم ويقودهم، وبذلك لا يوجدُ شخصٌ ما يصنع التاريخ، التاريخ هو الصانع لكل شيء، وأن مكر التاريخ لا يحدث من دون أطماع فردية تدور حول الرغبة في الاعتراف والتقدير. وعكس بوتين هذه الأطماع الفردية باجتياح القوات الروسية لأوكرانيا وهو يعطي سردية تاريخية فيها جزء من الصحة والكثير من المكر، بأن أغلب أراضي أوكرانيا انتزعت من روسيا، وشكك في وجود أوكرانيا تاريخيا. تعبق تلك الادعاءات بروائح استعمارية من دون أقنعة أو منكّهات، وبعد اعتراف روسيا بجمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الشعبيتين المعلنتين من جانب واحد، طلبتا المساعدة، وتدخل بوتين في المناطق الانفصالية بحجة “قوات حفظ سلام” مستنداً إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة بمقتضى ادعاءه.

تسكن بوتين هواجس التاريخ والمستقبل وخصوصًا ما حل بالاتحاد السوفيتي، وهذا ما عبرت عنه وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت بقولها: «بوتين يشعر بالإحراج مما حدث لبلاده وهو مصمم على استعادة عظمتها». كان بوتين واضحًا برغبته في استعادة عظمة الإمبراطورية الروسية أو إحياء أمة روسية عظيمة من دون شيوعية، وهذا لا يمكن أن يحدث من دون السيطرة على أوكرانيا، وذلك ما يتفق مع آراء بريجنسكي (إذا سيطرت روسيا على أوكرانيا فيمكن لها أن تعيد بناء إمبراطوريتها من جديد)، لذا كان بريجنسكي يدعو إلى أن تصبح أوكرانيا محور اهتمام وتركيز الاستراتيجية الأميركية بعد انتهاء الحرب الباردة، لأن أوكرانيا القوية والمستقرة هي ثقل موازن وحاسم في وجه روسيا.

تفتقر روسيا للجاذبية بالنسبة للشعوب والدول المحيطة بها، فلا يسعها في النهاية سوى الاعتماد على عمودها الفقري (جيشها) في إرساء أهدافها، بدءًا من تدخلها في جورجيا عام 2008 وسيطرتها على القرم عام 2014 ودعمها للمنطقتين الانفصاليتين دونيتسك ولوهانسك، والتدخل في سوريا عام 2015 وليبيا عام 2018 وكازخستان 2021، وصولاً إلى اجتياح أوكرانيا 2021. ترافقت الولاية الثالثة لبوتين بتعيين صديقه شويغو وزيرًا للدفاع وبدء الجيش الروسي سلسلة التدخلات الأنفة الذكر. وقد أصبح الجيش الآن مجهزًا بجيل جديد من التكنولوجيا ومدعومًا بمجمع صناعي عسكري يتمتع بقدرة متزايدة على الوصول إلى المجتمع الروسي، وبفضل نفوذه السياسي الجديد، برز الجيش بوصفه واحدًا من أهم المؤسسات في روسيا بوتين.

ولأول مرة في تاريخ روسيا منح الجيش مثل هذا الدور الحاسم في التسلسل الهرمي القيادي في الكرملين خلال العقد الماضي. وفي حين أن الجيش في السنوات السابقة لم يكن مشاركًا في صنع السياسة الروسية وظل تابعًا بشكل أو بأخر للأجهزة الأمنية، التي جاء بوتين نفسه من صفوفها. اكتسب الجيش في العقد الأخير خبرة في وضع السياسات والعلاقات بدول أخرى مثل سوريا وكازاخستان، وقد اكتسب دعمًا شعبيًّا في الداخل لم يسبق أن تمتع به. بالإضافة إلى شعور روسيا أنها بين أوربتين في الغرب والشرق (كوريا الجنوبية واليابان والصين)، وأنها تتخلف عنهم بأشواط، ولا يمكنها الاعتماد على حلفاء كثر، جعلها تتمسك بصديقها الوحيد – حَسَبَ قول قيصر – جيشها وأسطولها.

تاريخياً، للروس في المراحل القيصرية والسوفيتية وعهد روسيا بوتين قدرة على خوض حرب المدن، عبر قدر هائل من التدمير والوحشية غير أبهين بالتغطية الإعلامية والانتقادات التي تتعالى في الغرب. وباعتبار روسيا دولة شديدة التعصب قومياً، فجيشها تقليدياً أكثر قدرة على تحمل الخسائر البشرية في صفوفه بسبب ضعف الرأي العام والرقابة الموجودة على وسائل الإعلام.

تكلم كثيرون عن فخ ثيوسيديدز عندما دُمرت أثينا الصاعدة على يد إسبارطه، وأُسقط ذلك على المنافسة بين الصين والولايات المتحدة، ولكن الأمر ينطبق أكثر على روسيا وأوكرانيا؛ كان تدعيم الجيش الأوكراني يخيف بوتين أكثر من انضمامها – المؤجل – إلى الناتو، وذلك عبر مدها بأسلحة من الولايات المتحدة وتركيا والناتو، وهذا ما كان يخشاه على مخططه المتمثل في ترويض أو ابتلاع أوكرانيا لتكون بلا أسنان، ومع سلخ سواحلها على البحر الأسود لتكون بلا فم أيضاً.

مواضيع ذات صلة: قلب روسيا التاريخي

ترتبت للغرب ظروف مثالية لتقوية أوكرانيا اقتصادياً وعسكرياً بعد الثورة البرتقالية في عام 2004، وفرصة ثانية عام 2014 بعد هروب فيكتور يانكوفيتش واستيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم، لكن في الحالتين فُوِتت تلك الفرص إلى حد بعيد، وتقوية أوكرانيا لم تكن تعني بأي شكل أنها قادرة على هزيمة روسيا، ولكنها كانت ستجعل منها لقمة غير سائغة وصعبة الهضم، وعلى هذا ستجعل الحرب مكلفة لروسيا بقدر يجبرها أقله على إعادة النظر أو حتى العدول عن أي عدوان، ما يمهد لانضمامها إلى للاتحاد الأوروبي من دون رد الفعل الروسي العنيف، بيد أن ذلك السيناريو لم يؤخذ به، وتُركت أوكرانيا في وجه العاصفة وحدها، مع ترضيات غير مؤثرة بشكل حقيقي كحملات المقاطعة وبضع مليارات من الدولارات والصواريخ المضادة للدبابات.

اقرأ أيضا: كازاخستان وكومة الأحجار

وعلى عكس المتوقع، تكمن ذروة الصورة في الماضي عام 1994، عندما تخلت أوكرانيا عن الأسلحة النووية التي ورثتها عن الاتحاد السوفيتي مقابل الحفاظ على حدودها بضمانة الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا نفسها، عبر مذكرة بودابست، وبموجبها إرجاع أكثر من 1800 رأس نووي إلى روسيا، والتخلص من الصواريخ البالستية العابرة للقارات وصوامعها ومنصات إطلاقها، كل هذا مقابل ضمانات لم تنفذ، كما يظهر الآن. وأهمية عدم الالتزام الذي حدث لا تكمن في الوضع الأوكراني وحده، لكنه يعطي إشارة سيئة للكثير من الدول الساعية لكسب القدرات النووية، ولا سيما إيران وكوريا الشمالية.
وبعودة إلى هيغل يلخص ما سبق بعبارة حاسمة: «ما تعلمه التجربة والتاريخ هو أن الشعوب والحكومات لم تتعلم شيئاً قط من التاريخ».

وائل رئيف سليمان

محرر صحفي، مترجم ومدير محتوى. حاصل على إجازة في الإعلام من كلية الإعلام والصحافة في جامعة دمشق 2005/2006. عمل محررا وكاتبا في الشؤون الدولية ومدير تحرير ومحتوى في وسائل إعلام سورية وعربية.

أضف تعليقًا

اضغط لإضافة التعليق