أمجد راشد
تقول الحكمة القديمة: قبل أن تحكم على شخص عليك أن تمشي ميلاً في حذائه
سلوك أساسي عند البشر، ومن السلوكيات البشرية الاجتماعية التي نتفاعل بواسطتها مع الآخرين وتدفعنا للتضامن والتعاضد معهم. التعاطف المقصود هنا الآن (empathy) تقمص شعور الآخر ومشاركته ألمه وإظهار درجة عالية من تفهم شعوره.
كثيراً ما تحدث كوارث إنسانية تثير موجات كبيرة من التعاطف حول العالم تغطيها وسائل الإعلام بشكل مركز، وتترافق تلك الموجات مع كثير من التعليقات المتناقضة؛ من قبيل لماذا تعاطفتم مع هذا الحادث وتجاهلتم غيره، لماذا تعاطفتم مع موت طفل هنا وتجاهلتم موت آلاف الأطفال هناك. ستصل الأمور في أحايين كثيرة إلى حد الاتهام بالتوظيف السياسي والاستغلال الإعلامي للكوارث الإنسانية وتجييرها لمصلحة طرف سياسي ما وغيرها الكثير من الاتهامات.
بعيداً عن إطلاق الأحكام ماهي العوامل التي تؤثر على شعورنا بالتعاطف تجاه أي حدث من وجهة نظر علم النفس؟ في انحيازات التعاطف أو الانتقائية الأخلاقية، يقول جورج أورويل في كتابه مذكرات الحرب: “الكل غير أمين، والكل لا يشعر برحمة تجاه من هم خارج النطاق المباشر لمصلحته، والأدهى هو إمكانية فتح الرحمة وغلقها مثل صنبور وفق المصلحة السياسية”.
وفق علماء النفس، هناك انحيازات وعوامل كثيرة تؤثر في تعاطفنا تجاه أي حادث أو شخص. يتأثر شعورنا بالتعاطف بشكل واضح بإحساسنا بالانتماء، إذا تزداد نسبة التعاطف مع الأشخاص ممن يشاركنا انتماءنا سواء كان سياسيًا أو مذهبيًا أو غيره. وتنخفض نسبة التعاطف مع الأشخاص المخالفين لانتماءاتنا، بل قد تصل الأمور لانحيازنا أكثر لنتعاطف مع أشخاص يشجعون نفس فريقنا المفضل وتنخفض مع الأشخاص الذين يشجعون الفريق الخصم.

“- جوزيف ستالين
redefy.org
نرى الكثير من الانحيازات والانتقائية الأخلاقية في صراعات الشرق الأوسط الدموية كاليمن وسوريا، التي تتدخل فيها أطراف متعددة تتقاطع وتتصادم مصالحها على نحو معقد. سنرى من يؤيد طرفًا ويتعاطف فقط إذا كانت الضحية من الطرف الذي ينتمي إليه، ويتجاهل الأمر إذا كانت الضحية من الطرف الآخر، بل قد تصل الأمور إلى تبرير قتل المخالف ونزع إنسانيته والشماتة به
محدودية التعاطف
يقول عالم النفس الأمريكي بول بلوم في كتابه(ضد التعاطف، دفاعاً عن العطف العقلاني) بأن التعاطف بقعة ضوء ضيقة تسلط الضوء والاهتمام على حيز ضيق جداً فلا يستطيع الشخص التعاطف مع أكثر من شخص أو جهة بنفس الوقت.
يتركز التعاطف تجاه الحوادث التي تنال حظاً أعلى من الاهتمام. التعاطف بنظر بلوم سيء جداً بالتعامل مع الإحصاءات والأرقام؛ فتجد تأثر حكومات وشعوب ومنظمات عند التعاطف مع طفل صغير مريض بالسرطان أكثر من تأثرهم بإحصاءات وأخبار حول حدث أودى بحياة الآلاف من البشر؛ هذا ما يسمى بــ “أثر الضحية المحددة”. فكلما كانت الضحية محددة أكثر وظروفها أكثر وضوحاً كلما كان التعاطف معها أعلى، خلافاً للإحصاءات التي تتحدث عن الضحايا على شكل أرقام دون توضيح ظروفها وقصة ومأساة كل شخص فيها.
يعترف بلوم بأن التعاطف قد يردع شخصًا معينًا عن العنف، بيد إنه يساهم بشكل آخر بالعدوانية وفق بلوم. في تجربة أجراها بلوم وزملاءه يحكي لمجموعة أفراد قصة عن صحفيين تعرضوا للاضطهاد في الشرق الأوسط، وأناس أمريكيين قاموا بجرم أو تجاوز ما، ثم قدموا لأفراد المجموعة عدة اقتراحات ليختار كل فرد منهم ما مناسب بنظره ليكون أفضل استجابة للجهة المخطئة التي هي سبب المعاناة للضحايا. كانت الاقتراحات تتدرج بحدتها وعنفها من الأخف للأشد، ففي قصة الصحفيين المضطهدين تراوحت الاقتراحات من اقتراح “لا نفعل شيء للجهة المخطئة” ثم الإدانة والنقد العلني وصولاً للاحتلال والغزو العسكري. وفي قصة الأمريكيين الذي قاموا بجرم تراوحت الخيارات ما بين دفع كفالة نقدية وصولاً لجعلهم مؤهلين لحكم الإعدام.
بعد أن حدد المشاركين خيارهم أُخضعوا لاختبار معياري يحدد مدى التعاطف عند كل فرد، فكانت النتيجة أن الأفراد الأكثر تعاطفاً هم أصحاب الاستجابات الأكثر عنفاً، بمعنى آخر تعاطف أكبر مع فرد ارتبط بعدوانية أكبر تجاه خصمه حتى لو كان هذا الخصم مجهول لنا.
هل التعاطف دوماً يقودنا إلى سلوكيات أخلاقية أو سلوكيات أكثر توازناً؟ إن قوة تأثير أثر التعاطف علينا قد يوهمنا بأننا نقوم بفعل جيد لحل مشكلة ما، ولكن في الواقع قد نساهم في تفاقمها، ويعطي بلوم عدداً من الأمثلة مثلا، أن المساعدات الدولية للدول الفقيرة تسبب في إضعاف السوق المحلية وتضر القطاعات المنتجة في ذاك البلد أو تسبب في إضعاف الدافع لإصلاحات اقتصادية طويلة المدى.
مثال آخر، عن طفل هزيل يتسول في الشوارع يدفع أناس كثر لإعطاء هؤلاء الأطفال المال مما يساهم في استمرار عصابات تستغل الأطفال وتستعبدهم للحصول على المال. هذه الأمثلة لا تستدعي بنظر بلوم التخلي عن التعاطف بل تدعونا للتفكير بأساليب منطقية أخرى للتعبير عن التعاطف بطريقة تجنبنا الوقوع في فخ فعل الخير المزيف.



في تجارب أخرى أجراها علماء نفس على مجموعة ممرضين يتعاملون مع حالات طبية حرجة؛ إذ قاس العلماء مستويات تعاطف كل فرد بواسطة اختبار معياري ولاحظوا تأثير التعاطف على أداءهم في العمل، فكانت النتيجة بأن الأشخاص الأكثر ميلاً ليكونوا تعاطفييّن أو أكثر انغماساً بالتعاطف هم أقل قدرة على التصرف المتوازن في الظروف الصعبة والمواقف الحرجة، ويسبب لهم التعاطف المفرط توتراً وارتباكاً وعجزاً عن القيام بفعل مفيد ومساعد مع أنّ نيتهم الصادقة بذلك.
الاستغلال السياسي للتعاطف
اقرأ أيضا: مما قرأه بيل غايتس_ ألف دماغ، نظريةٌ جديدةٌ عن الذكاء
لطالما استغلت وسائل الإعلام والحكومات حول العالم الكوارث الإنسانية وموجات التعاطف ووظفتها لخدمة مصالحها، كإدانة نظام معادي أو تبرير عمل عسكري أو الضغط لانتزاع قرار سياسي من مراكز القرار ، كأحداث الحادي عشر من أيلول التي استخدمتها الولايات المتحدة كذريعة لشن حروب متعددة أودت بحياة عدد أكثر بكثير من الناس الذين قضوا في تلك الأحداث، بل وصلت الأمور عند شركات الإعلام والعلاقات العامة لصنع الدعايات وإثارة التعاطف المدروس والانتقائي وتسخيرها لخدمة المصالح السياسية.
لعل قصة الطفلة نيرة الكويتية مثالاً ساطعاً على ذلك، نيرة التي أدلت بشهادة إبان الغزو العراقي للكويت أمام الكونغرس الأمريكي في العاشر من أكتوبر عام 1990 بشكل درامي عاطفي. لقد شاهدت جنودًا عراقيين يسرقون حاضنات الأطفال من المستشفيات الكويتية وتسببوا بمقتل أطفال خدّج.
بيد أن التحقيقات اللاحقة كذّبت ادعائها، وأن شهادتها كانت جزءاً من حملة العلاقات العامة “مواطنون من أجل الكويت الحرة” التي تديرها الشركة الأمريكية (هيل ونولتون) لمصلحة الحكومة الكويتية وهدفها التأثير على الرأي العام الأمريكي لمصلحة المشاركة في حرب الخليج الثانية وأصبحت شهادة نيرة نموذجاً للدعاية السياسية الفظيعة.
اقرأ أيضا: كيف ننقذ التنوع البيولوجي والكوكب في آن واحد؟
يبقى التعاطف أحد السلوكيات الإنسانية التي تدفعنا للتعاضد وفعل الخير، ولكن علينا أن ننتبه قبل إطلاق أي حكم بأنه يتأثر بانحيازاتنا وأحكامنا المسبقة وولاءاتنا وانتماءاتنا، وقد يقودنا لتصرفات لا أخلاقية غير مسؤولة دون إدراك منا مما يجعل هذا الشعور التضامني وسيلة لخدمة أغراض شريرة لمصلحة جهات متعددة.
حرره وأعدّه للنشر: وائل سليمان
أضف تعليقًا