الأرشيف

السلايد الرئيسي ترجمات جيوبولتيك واستراتيجيا

فجر كاذب لليبرالية؟

فجر كاذب لليبرالية؟
Illustration by Diana Ejaita.

لماذا قد لا تنعش الحرب في أوكرانيا الغرب

ترجمات دريل

كتب في مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية: ألكسندر كولي ودانيل نيكسون

قلة من توقعوا أن يتصرف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بناءً على تهديده بشن غزو واسع النطاق لأوكرانيا. وتوقع عدد أقل إن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وشركائهم الديمقراطيين الرئيسين سيستجيبون بمثل هذا التصميم.

يمكنك أن تلحظ قوة المجتمع الديمقراطي الليبرالي تحرريًا ومسلّحًا بالكامل. إذ بسرعة خاطفة اقتلع نفسه عن منظومة الاقتصاد الروسي تماما عازلًا روسيا عن العديد من مزايا النظام الاقتصادي الليبرالي. استولى النظام الليبرالي على يخوت بعض الفاسدين الروس ووعد بمطاردة ثرواتهم في الخارج، سحق مصادر المعلومات المضللة وقمع وسائل الدعاية الروسية. لم تنضم ألمانيا إلى العديد من حلفائها في الناتو في تزويد أوكرانيا بالمساعدات العسكرية فحسب، بل التزمت أيضاً بزيادة الإنفاق الدفاعي بما يزيد عن 2٪ من ناتجها المحلي الإجمالي. بالنسبة للسويد وفنلندا صارت العلاقات العسكرية بالولايات المتحدة أمراً واجباً بعد أن كانت خياراً في أعقاب الغزو.

في الوقت نفسه، لم تنهر الحكومة الأوكرانية من الداخل كما توقع الكرملين. ولم يرق الجيش الروسي إلى مستواه المعهود نتيجة العديد من المشكلات العملياتية. يتجه بوتين نحو الاستبداد الكامل ليواجه الضغوط العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية المتصاعدة، ويفرض قيوداً على التعبير والمجتمع المدني الذي لم نشهده في روسيا منذ الحقبة السوفيتية. فر عشرات الآلاف من الروس من البلاد منذ بدء الغزو. أيضاً اختل توازن الشعبويين الرجعيين المؤيدين لبوتين والمستبدين المحافظين في أوروبا وأمريكا الشمالية حالياً على الأقل. لا يسع بكين إلا ملاحظة متاعب القوات المسلحة الروسية ونطاق العقوبات الغربية والمساعدات العسكرية الكبيرة التي تتدفق إلى أوكرانيا.

هذه ليست قضية صغيرة. فمؤخراً بدا أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان وشركاؤهم الديمقراطيون الرئيسيون إما غير راغبين أو غير قادرين على وقف “المد غير الليبرالي” الدُّوَليّ. سارع المعلقون إلى الإشارة إلى المفارقة. وفي رأي مايكل بيكلي وهال براندز أن بوتين قدم للولايات المتحدة وحلفائها “فرصة تاريخية” “لإعادة بناء نظام دُوَليّ بدا مؤخراً على وشك الانهيار”. كما قلنا سابقاً، فإن تفكك النظام الدُّوَليّ الليبرالي “ليس سوى مظهر واحد من مظاهر أزمة أوسع بكثير” من “الليبرالية نفسها”.

مصدر الإنفوغراف. رويترز 2015. تحقيق استقصائي رابط للاطلاع تحت المعرض
Putin’s yacht features a 50-foot-long indoor pool.
تمتع يخت أبراموفيتش بامتياز لسنوات عديدة كأكبر يخت فاخر في العالم.

مزيد من الصور على الرابط التالي موقع مجلة نيويورك بوست: اضغط هنا
كيف كانت تعمل روسيا في عهد بوتين.. رفيق الرأسمالية/ مصدر الإنفوغراف تحقيق رويترز: اضغط هنا

تطورت الأزمة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. منذ أوائل التسعينيات، اتبعت القُوَى الديمقراطية الليبرالية الرئيسية نسخة مفتوحة جذرياً من النظام الليبرالي وخصوصاً في شكل سياسات اقتصادية ليبرالية جديدة مثل تنقل رأس المال غير المقيد. نشرت هذه السياسات في البداية ديمقراطية السوق، ولكن خلال العقد الأول من القرن الحالي بدأت التغييرات المتسلسلة في النظام الدُّوَليّ تفضل “مجموعة متنوعة من القُوَى غير الليبرالية بما في ذلك الدول الاستبدادية كالصين التي ترفض الديمقراطية الليبرالية بالجملة إضافة إلى الشعبويين الرجعيين والمستبدين المحافظين الذين يقدمون أنفسهم على أنهم حماة ما يسمى بالقيم التقليدية والثقافة الوطنية حيث يقومون تدريجياً بتخريب المؤسسات الديمقراطية وسيادة القانون “.

ما يزال من السابق لأوانه معرفة ما إذا كان الغزو الروسي لأوكرانيا سيعيد تنشيط المشروع الليبرالي، ومع ذلك هناك فعلًا علامات رعونة بين بعض المراقبين الأمريكيين والأوروبيين. قد يثير هذا المتاعب، ولا سيما إذا أخطأ صناع السياسة في قراءة الواقع الحالي كإعلان نهاية أزمة النظام الليبرالي مثلاً أو استعادة الهيمنة الغربية على العالم.

خطر الغطرسة

لم تكن واشنطن أبداً ذلك العملاق الأسطوري أطلس، الذي يرفع النظام الدُّوَليّ على كتفيه حتى خلال ذروة القوة الأمريكية في زمن ما بعد الحرب الباردة (ما يسمى “باللحظة أحادية القطب”). كان النظام الليبرالي الذي نشأ خلال التسعينيات يتألف من ويحافَظ عليه من قبل كارتل فضفاض من الدول والمؤسسات الدولية – التي كانت في الحقيقة بمنزلة اتحاد كونفدرالي غير رسمي أكثر من كونه تحالفاً تقليدياً للقوى العظمى. تضمنت مرتكزاتها الأساسية الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدُّوَليّ والبنك الدُّوَليّ ومجموعة السبع والناتو وسلسلة من التحالفات الثنائية والشراكات الاستراتيجية.

لن تدوم الهيمنة الاقتصادية والعسكرية لهذا الكارتل الديمقراطي الليبرالي طويلاً. فمن ناحية، كانت حصة مجموعة السبع من الناتج الاقتصادي العالمي تتراجع بالفعل بحلول منتصف التسعينيات. من ناحية أخرى، اعتمدت الهيمنة الديمقراطية الليبرالية على الإذعان – إن لم يكن التعاون – من الدول الاستبدادية والقوى العظمى غير الليبرالية.

بسبب نقاط الضعف هذه، كان من المفترض أن يؤدي صعود الصين وانبعاث القوة الروسية إلى تعزيز التعاون الاستراتيجي الوثيق بين أعضاء الكارتل الديمقراطي الليبرالي. ولكن خلال معظم العقدين الماضيين لم يكن الأمر كذلك: فسرعان ما أفسح تفكك هذه الوحدة نتيجة هجمات 11 سبتمبر / أيلول على الولايات المتحدة الطريق للاحتكاكات الناتجة عن الكشف عن “الاستجوابات المعززة” و “عمليات التسليم الاستثنائي” الأمريكية وحرب العراق و”عقيدة الاستباقية” لإدارة بوش والاستراتيجيات المتباينة لإدارة روسيا والصين. بدلاً من زيادة التماسك الديمقراطي الليبرالي، أدى الانحدار النسبي – مقترناً ببعض أخطاء السياسة الكبرى – إلى تقويض النظام الليبرالي. لقد ساعد في دق إسفين بين القُوَى الديمقراطية الليبرالية الكبرى مع تمكين الحركات السياسية غير الليبرالية مثل الشعبوية الرجعية.

يوضح الرد على حرب بوتين في أوكرانيا ما يمكن للديمقراطيات الليبرالية أن تحققه عندما توحيد الجهود. لنتأمل أحد التطورات الأكثر إثارة للدهشة: فرض عقوبات على البنك المركزي الروسي من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان. تتطلب هذه الخطوة غير المسبوقة – التي أطلق عليها المؤرخ آدم توز “الخيار النووي” للعقوبات الاقتصادية – تنسيقًا استثنائيًا بين القُوَى المالية الغربية. في غضون 24 ساعة، فقد البنك المركزي الروسي إمكانية الوصول إلى 388 مليار دولار، أو 60 في المئة من مخزونه البالغ 643 مليار دولار. مع قرب انخفاض سعر الروبل، اضطرت الحكومة الروسية إلى فرض ضوابط فعلية على رأس المال، وتقييد عمليات سحب العملات الأجنبية وإجبار الشركات الروسية على بيع العملات الأجنبية. أدت العقوبات الشاملة والاشمئزاز الدُّوَليّ تجاه الغزو، إلى جانب رد الفعل الشعبي العنيف ضد بوتين، إلى نزوح مئات الشركات الغربية من روسيا – بما في ذلك مزودي أنظمة الدفع وتجار التجزئة ومستثمري الطاقة.

لعروض القوة هذه مشاكلها. قد تعتقد الحكومات الديمقراطية الليبرالية خطأً أنها تستطيع استعادة المراكز القيادية العليا التي احتلتها قبل عقدين. لا شك أن الديمقراطيات الليبرالية، عند اتحادها، تشكل أقوى مجتمع سياسي على هذا الكوكب. لكن مما لا جدال فيه أنها فقدت القاعدة الأساسية منذ أواخر التسعينيات والسنوات الأولى من هذا القرن. أوشك تحول الصين إلى قوة عظمى على الاكتمال ولن يعرقلها إلا معجزة. ربما بالغ المحللون العسكريون الغربيون في تقدير القوة العسكرية لروسيا، ولكن هذا لا يعني أنها “محطة وقود على شكل دولة” كما قال السناتور الراحل جون ماكين.

الجمعية العامة للأمم المتحدة تصوت على تعليق عضوية الاتحاد الروسي في مجلس حقوق الإنسان خلال جلسة خاصة طارئة بشأن أوكرانيا. UN Photo/Manuel Elías

يميل العديد من الأمريكيين إلى تأليه قوة الولايات المتحدة، خاصة عندما يتعلق الأمر بقدراتها العسكرية والتقليل إلى حد بعيد من الدرجة التي تكون بها هذه القوة نتيجة العضوية في كارتل ديمقراطي ليبرالي. يمكن رؤية هذا الدافع في الحديث عن الولايات المتحدة على أنها “الأمة التي لا غنى عنها” خلال إدارة كلينتون وفي استعداد إدارة جورج دبليو بوش للإضرار عمداً بتماسك المجتمع الديمقراطي الليبرالي. وبالمثل، فإن نجاح الولايات المتحدة في أوكرانيا قد تنتهي الأزمة بتغذية غطرسة الشعبوية الرجعية “أمريكا أولاً”.

هناك طريقة أخرى تجعل التطورات الحالية لشعار “أمريكا أولاً” سياسة خارجية – فضلاً عن استراتيجيات ضبط النفس أقل شوفينية وأقل عسكرية – أكثر منطقية. يقول ستيفن والت، الواقعي البارز والمدافع عن “التوازن الخارجي”، إن “الحرب في أوكرانيا تُظهر أن تحمل أوروبا مسؤولية أكبر عن أمنها ليس فقط أمراً مرغوباً فيه ولكنه ممكن أيضاً”. أي أن نجاح العمل الجماعي الديمقراطي الليبرالي في مواجهة العدوان الروسي يقدم دليلاً على أن المجتمع عبر الأطلسي يجب أن يقلل من ترابطه السياسي والأمني المتبادل.

إن إعادة التوازن إلى المجتمع الديمقراطي الليبرالي – بطرق تمنح أوروبا صوتاً ومسؤولية أكبر – ستساهم بالتأكيد في عافيته على المدى الطويل. لكن ترك أوروبا لتذهب بمفردها قد يضعف إلى حد بعيد، إن لم يدمر، الكارتل الديمقراطي الليبرالي في الوقت الذي يواجه فيه أكبر تحدياته منذ الحرب الباردة. تذكرنا الديناميكية هنا بمفارقة اللقاح، حيث يقود النجاح الساحق للقاحات الطفولة الناس إلى استنتاج أنه لم تعد هناك حاجة إليها.

الغني لص

لطالما استغل الحكام الفاسدون نقاط الضعف في النظام الاقتصادي والسياسي الليبرالي. بمساعدة دقيقة من مديري الثروات والشركات والحكومات الغربية فأصبحت روسيا لاعباً رئيسياً في نظام حكم اللصوص المعولم. قام أصحاب النفوذ الروس بنقل الأموال بسلاسة عبر شركات وهمية في الخارج. لقد حصلوا على الإقامة والمواطنة لعائلاتهم بموجب برامج المستثمرين “التأشيرة الذهبية” المختلفة في الدول الغربية. واستثمروا في العقارات الفاخرة وهو قطاع دون رقابة جادة عملية. كما ثابروا على تلميع صورهم بتمويل المؤسسات الثقافية الرائدة والتبرع للجامعات ودعم السياسيين وجماعات المصالح السياسية. وهم يحتفظون بشركات إدارة السمعة التي، من بين أنشطتها العدّة البغيضة، تخيف الصحفيين والباحثين الذين يهددون بنشر ماضي عملائهم الفاسد.

دفع غزو أوكرانيا الحكومات الديمقراطية الليبرالية إلى أن تصبح أخيراً جادة بشأن حكم اللصوص الروسي. وبالفعل، فإن الخطوات التي اتخذت ذهبت إلى أبعد بكثير مما كان يأمل أنصار مناهضة الفساد: فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة مصادرة الممتلكات وتجميد الأصول وحظر السفر على مجموعة واسعة من الأوليغارشية المرتبطين بالكرملين. استولت دول الاتحاد الأوروبي على يخوت العديد من أغنى وأقوى الشخصيات في روسيا منهم عليشر عثمانوف وأقرب المقربين لبوتين إيغور سيتشين؛ فرضت بريطانيا عقوبات على رومان أبراموفيتش المالك البارز لنادي تشيلسي لكرة القدم. وأعلنت الولايات المتحدة عن تشكيل وحدة كليبتو كابتشر وهي فِرْقَة عمل مشتركة بين الوكالات مصممة للكشف عن الأصول المخفية المملوكة لروسيا واستهدافها.

بطبيعة الحال، فإن روسيا ليست الدولة الوحيدة التي يستغل فيها الفاسدون النظام الليبرالي ويقوضون بعض قوانينه. تستفيد الشركات الأمريكية والسياسيون الغربيون والمليارديرات الصينيون والأمراء السعوديون من العديد من نفس الثغرات ومقدمي الخدمات. في عالم مثالي سيصبح العمل ضد الأوليغارشية الروسية الأساس لحملة عامة على الشركات التي تستفيد من مخططات التهرب الضريبي الدولية وتبييض الفاسدين وثرواتهم وكل شيء بينهما. قد يعني ذلك التزامات وطنية ومتعددة الأطراف للتعامل مع صعود الأوليغارشية العالمية التي غالباً ما كانت روسيا مصدراً رئيسياً لها.

حالياً يبدو أن مثل هذه التعبئة الواسعة غير مرجحة لتعارضها مع العديد من المصالح القائمة، مما يعطي الكثير من الصلاحيات لمقدمي الخدمات والسياسيين الذين يخدمونهم. ومع ذلك، مع غزو أوكرانيا، وما نتج عنه من حملة قمع ضد الأوليغارشية الروسية، تبرز الكيفية واضحةً إذ تؤدي بها الفوضى العابرة للحدود الوطنية إلى تآكل الأنظمة السياسية وتهديد الأمن القومي للديمقراطيات الليبرالية. يمكن أن يؤدي فضح الأوليغارشية الروسية إلى تقوية أيدي المدافعين عن مكافحة الفساد في أثناء سعيهم إلى فضح المالكين المستفيدين -أولئك الذين يمتلكون أو يتحكمون في أعمال الشركة أو ممتلكاتها -وتفكيك مخططات التأشيرات الذهبية وجوازات السفر والتحقيق في الأصول المشبوهة للثروة غير المبررة.

يمثل التضليل الإعلامي والحملات المالية المبهمة تحدياً أكثر تعقيداً من غسيل الأصول الكليبتوقراطي المباشر. لقد أغلقت العديد من الديمقراطيات الليبرالية عمليات وسائل الإعلام الحكومية الروسية، لكن المؤسسات الإعلامية الغربية غالبًا ما تؤدّي دوراً أكبر بكثير عندما يتعلق الأمر بتقويض الثقة المؤسساتية والتماسك الاجتماعي والقيم الديمقراطية. ربما أعلنت قناة آر تي أميريكا أنها ستوقف خدماتها في الولايات المتحدة بعد إزالتها من التلفزيون الكابلي ومنصات التكنولوجيا، لكن تاكر كارلسون من فوكس نيوز يواصل الترويج للمعلومات المضللة والدعاية الصديقة للكرملين لجمهور أكبر بكثير. مفهوم الكليبتوقراطية

تستحق وكالات الأنباء المحلية حماية حرية التعبير بغض النظر عن مدى عدم الليبرالية في وجهات نظرها. لكن حان الوقت لاتخاذ إجراءات مسموح بها دستورياً لتقييد قدرة الحكومات الأجنبية، ولا سيما الحكومات الاستبدادية، على التأثير في السياسة الأمريكية. مع أنّه ربما لا يمكن معالجة الأموال السوداء على الوجه المناسب دون إسقاط منظمة سيتزنز يونايتد بطريقة ما، يمكن لمنصات الإعلام المسؤولة اتخاذ إجراءات أكثر تضافراً للحد من الانتشار المتعمد للدعاية الاستبدادية. مزودو خدمة الكابل غير مطالبين بحمل الشبكات التي تروجها. يمكن للنشطاء تكثيف الجهود لمقاطعة الممولين.

تعد البوتينية أنموذجاً مهماً للحكومة الفاسدة والحكم الاستبدادي، بيد إنه يجب فهمها كجزء من موجة كليبتوقراطية غير ليبرالية عالمية. المعلومات السياسية المضللة والمال الكليبتوقراطي هما المُتّجهان الرئيسان اللذان من خلالهما تستغل الأنظمة الاستبدادية النظام الدُّوَليّ الليبرالي. وهما أيضاً من الأدوات الرئيسية التي يستخدمها السلطويون المحليون والشعبويون الرجعيون لتقويض الديمقراطية الليبرالية من الداخل، يتطلب معالجة تأثيرها المدمر مشاركة أكثر شمولاً للمعلومات وتنسيقاً مستداماً بين وكالات مكافحة الفساد والهيئات التنظيمية عبر المجتمع الديمقراطي الليبرالي.

شركاء بدوام جزئي

حتى مع الرد على الغزو الروسي، حدث انقسام كبير، وتناقض أكبر، بين من يمثلون جوهر الديمقراطية الليبرالية -أوروبا والولايات المتحدة وحلفاء مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا -ودول أخرى، كثير منها في جنوب الكرة الأرضية، بشأن الغزو الروسي لأوكرانيا. انظر إلى قرار الأمم المتحدة بإدانة الغزو الروسي: صوتت 141 دولة لمصلحته، وعارضت خمس دول، وامتنعت 35 دولة عن التصويت. (اختارت اثنتا عشرة دولة من بينها أذربيجان وتركمانستان وأوزبكستان وفنزويلا عدم التصويت على الإطلاق). ومع ذلك، كانت هناك خمس دول امتنعت عن التصويت -الصين والهند وباكستان وبنغلاديش وجنوب إفريقيا – التي تمثل مجتمعة – نصف البشرية تقريباً.

ينبغي ألا يتفاجأ أحد من امتناع الصين عن التصويت. فمن ناحية، يتوق الساسة الصينيون إلى تجنب تقديم أي دعم لروسيا من شأنه أن يعرضهم لشبكة العقوبات الغربية. مثلاً أوقف البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وهو بنك التنمية الذي أنشأته الصين في عام 2016، أنشطته المتعلقة بروسيا وبيلاروسيا، وأعلنت الصين أنها لن تزود موسكو بقطع غيار بديلة لشركة الطيران. ومع ذلك، لا مصلحة لبكين في دعم الغرب ضد شريكها الاستراتيجي. على العكس من ذلك، كررت وكالات الأنباء الصينية الرسمية نقاط الحديث الروسية التي تلقي باللوم على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي في إشعال الحرب وتضخيم المعلومات الروسية المضللة حول الأسلحة البيولوجية الأمريكية.

فازت الحملة التي تقودها الولايات المتحدة بـ 93 صوتا لمصلحة تعليق عضوية روسيا، بينما صوتت 24 دولة بالرفض وامتنعت 58 دولة عن التصويت. 
كانت هناك حاجة إلى أغلبية ثلثي الأعضاء المصوتين – باستثناء الممتنعين عن التصويت – لتعليق عضوية روسيا في المجلس المؤلف من 47 عضوًا.

أما الهند فيعكس حيادها الواضح تجاه الغزو اعتقاد نيودلهي الضمني بأنه يمكنها الحفاظ على شراكات استراتيجية مع كل من روسيا والولايات المتحدة. ما تزال الهند مستهلكاً رئيسياً للأسلحة من روسيا وقد اشترت مؤخراً ثلاثة ملايين برميل من النفط الروسي بأسعار تفضيلية. من بين المترقبين، امتنعت جميع دول وسط آسيا السوفيتية السابقة الخمس عن التصويت أو لم تسجل تصويتاً، بالإضافة إلى 16 دولة في إفريقيا تحتفظ بعلاقات تجارية وعسكرية بروسيا. تخشى بعض هذه الدول من الضغط الروسي، لكن البعض الآخر يهدف إلى التحوط من رهاناته الجيوسياسية، ويعارض العقوبات بدافع المبدأ والمصلحة الذاتية، ويسعى إلى الحفاظ على قدرته على جذب روسيا كراعٍ وشريك.

حتى بعض الدول التي أيدت قرار الأمم المتحدة لا تنوي فرض عقوبات على روسيا. الإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، قد وضعت نفسها كملاذ مهم لهروب رؤوس الأموال الروسية إلى الخارج. ستسمح قوانين الضرائب الإسرائيلية للأوليغارشيين الروس المؤهلين بتبييض الأصول. وعلى الرغم من عضويتها في الناتو ودعمها للجيش الأوكراني، يبدو أن تركيا مستعدة للسماح بإعادة تسجيل الشركات الروسية تحت الأعلام التركية والبنوك التركية لتصبح وسطاء لروسيا. نتيجة لذلك، ستواجه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأعضاء الآخرون في نظام العقوبات الجديد خياراً صعباً يتمثل في معاقبة شركائهم الاستراتيجيين أو السماح لهؤلاء الشركاء بتخريب عقوباتهم.

والأهم من ذلك، أن ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية والسلع الناعمة سيزيد من انعدام الأمن المالي في جميع أنحاء العالم. يمكن أن يؤدي التضخم وارتفاع أسعار الطاقة إلى اضطرابات اجتماعية عالمية وبناء حالة من الاستياء ضد تسليح الغرب للاقتصاد الدولي. كما كان الحال في أعقاب ركود عام 2008، ازدهرت الليبيرالية خلال الأزمات المالية والحيرة الاقتصادية.

المشكلة واضحة ولكن من يجرؤ على الكلام

ومن المفارقات، أن غزو أوكرانيا يمكن أن يُظهر أن أخطر المخاطر على النظام الليبرالي تظل داخل البلدان الديمقراطية الليبرالية نفسها كالولايات المتحدة. ستظل جهود الدفاع عن النظام الليبرالي وإصلاحه في خطر مادام سُمح للفصائل المعادية للديمقراطية بالتغلغل في الحزب الجمهوري. خلال حقبة ترامب، لم تدعم هذه الفصائل البوتينية على النمط الأمريكي فقط – وهو نهج يتضمن التعدي علناً على الضمانات المؤسساتية وشيطنة وسائل الإعلام المستقلة – ولكن أيضاً بوتين نفسه.

يتضح الخطر في أول محاكمة لعزل ترامب. في مواجهة أدلة دامغة على أن الرئيس حاول ابتزاز الحكومة الأوكرانية بشأن نقل أسلحة دفاعية أمريكية، ضم الحزب الجمهوري صفوفه لمعارضة المساءلة في مجلس النواب وتبرئته في مجلس الشيوخ. تشوهت خلاها سمعة المسؤولين المهنيين في السياسة الخارجية وضخمت الرسائل الروسية ضد أوكرانيا. والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن ترامب نفسه أخبر المستشارين أنه يخطط لسحب الولايات المتحدة من الناتو خلال فترة ولاية ثانية.

أعطى الغزو الروسي لليمين الوسط للحزب الجمهوري أقوى فرصة له منذ سنوات لرفض هذه الاتجاهات. ربما ستؤدي حرب بوتين للقضاء على ديمقراطية وليدة إلى قيام الحزب الجمهوري بإعادة اكتشاف قيمة الديمقراطية الليبرالية. بنتيجتها، يعيد بعض أعضاء الحزب النظر في حملتهم لتفكيك المؤسسات الديمقراطية في الولايات المتحدة، وهي الجهود الأكثر تقدماً على مستوى الدولة. لكن إذا انتخب دونالد ترامب، أو أي شخص مثله، لمنصب عام 2024، فإن كل الرهانات ستنتهي.

المصدر: Foreignaffairs

وائل رئيف سليمان

محرر صحفي، مترجم ومدير محتوى. حاصل على إجازة في الإعلام من كلية الإعلام والصحافة في جامعة دمشق 2005/2006. عمل محررا وكاتبا في الشؤون الدولية ومدير تحرير ومحتوى في وسائل إعلام سورية وعربية.

أضف تعليقًا

اضغط لإضافة التعليق