يشكل المناخ المتوسطي عاملًا حاسماً لنجاح وتنويع الكثير من الزراعات التي تجود على المزارعين والدولة ككل، وبها تقلل الدولة نافذة الاستيراد وتحمي شرائحَ من المزارعين. بدأ التوسعُ بزراعة الحمضيات في سوريا خلال الثمانينيات وخصوصاً في الساحل السوري، وبتشجيع من الدولة التي افتتحت العديد من المشاتل لترويج هذه الزراعة، ولكن كما عهدنا بحكومتنا الرشيدة لم تكن هناك خططٌ مفيدة ولا سقفٌ محدد لهذه الزراعة، ومن دون تنويعٍ للمحاصيل والأشجار.
في التسعينيات تحسن وضع المزارعين، وعاد لينقلب في الألفية الجديدة، نتيجةَ زيادة الزراعة والإنتاج وليبدأ مسلسل الفائض وتراجع الربحية، وبلغ عددُ أشجار الحمضيات نحو 18 مليون شجرة أغلبها في شريط ساحلي ضيق نسبياً من حدود إسكندرونة حتى حدود لبنان، ينتج عنها أكثر من مليون طن في السنة، كانت السوق الداخلية تستهلك منها 500 ألف طن قبل الأزمة، والآن أقل من ذلك بكثير.
خلق ذلك مشكلة في التصريف واجهت المزارعين على مر السنين، بيد إن أصل هذه المشكلة ليست الزراعة والإنتاج، بل “إبداع” الحكومة في التخطيط والتنفيذ، الذي من المفروض أن يهدف لضبط عمل الزراعة وتنويعها في المقام الأول، ثم يليه تحسين الجودة من أجل المستهلك المحلي ولضمان التصدير.
وتعد حمضيات حوض المتوسط – ومنها سوريا- حمضيات مائدة، وهي أكثر ربحية من الحمضيات العصيرية لقابليتها للشحن والتصدير، ولكن لتصديرها عالمياً يجب أن تُتَبع خطط زراعية متكاملة من التسميد إلى رش المبيدات حتى المكافحة الحيوية، كي لا تحتوي أي أثر متبقٍ من الأسمدة والمبيدات أو الحشرات القشرية وغيرها، ومع عدم وجود هذه البرامج على صعيد وطني خرجت حمضياتنا من معظم أسواق العالم ولم يتبقَ سوى أسواق جوار سوريا.
مع تضخم المحصول تُرك هذا الإنتاج لقواعد السوق غير المنظمة، وفي حين كانت الأسواق الخليجية والعراقية تمتص جزءاً من هذا الفائض قبل الأزمة السورية حسب العلاقات السياسة بين سوريا وهذه البلدان، لكن تغير الأمر منذ عام 2011 مع غلق المعابر في درعا وصعوبة التصدير إلى العراق بسبب داعش وأمور سياسية أخرى، ليسبب ذلك للمزارعين خسائر لا تطاق وضياع جهد وخسائرَ على الصعيد الوطني كان يمكن تلافيها لو استحدثت زراعات أخرى يتم استيرادها بضخامة إلى الآن كالموز أو يحتاجها السوق للاستهلاك أو التصنيع مثل التين والمشمش والدراق وغيرها.
وبعد استعادة حكومة دمشق نسبة كبيرة من المناطق السورية وخصوصاً في دير الزور ودرعا، بدأ الأمل يعود للمزارعين ولتبدأ قصص أخرى من تكلفة الشحن وتكاليف الحواجز، ووفقاً لرئيس لجنة التصدير في غرفة زراعة اللاذقية فإن شحن البراد الواحد (40 قدم) من الساحل السوري إلى المستهلك العراقي يكلف أكثر من 7 ألاف دولار أي نحو 27 مليون ليرة، وهذا الرقم من دون سعر الحمضيات، وهذا جدول بالتكلفة وفق ما نقله رئيس اللجنة والأرقام بالدولار:
الموافقة على الشحن إلى البوكمال 2290
أجور أخرى داخل سوريا 700
مناولة عند الحدود بين الشاحنات 300
جمارك العراق 1700
ضريبة السوق العراقية 1600
عمولة محل في العراق 500
المجموع 7090

وللسوق العراقية أهمية محورية بالنسبة للصادرات السورية، ورغم تراجع حركة التصدير بشدة ولكنها ما تزال تشكل متنفساً حيوياً للاقتصاد السوري المتداعي حيث بلغت 100 مليون دولار في أول ستة شهور من العام الماضي بينما في عام كانت الصادرات 2,2 مليار دولار.
لذلك يسعى المسؤولون السوريون في زياراتهم إلى العراق لطلب فتح الحدود أمام الشاحنات السورية أسوة بباقي جيران العراق التي يسمح بدخولها، وروج المسؤولون السوريون عبر صحيفة تشرين بأن رئيس الوزراء العراقي وجه بالسماح للشاحنات السورية بدخول البلاد بعد لقائه السفير السوري في 20 كانون الثاني، ولكن إلى الآن يبقى الكلام كلاماً, فالحصص غير النظامية (للمتنفذين والتي تشكل نحو ثلث المبلغ) هي من تجعل أجور النقل غير منطقية، لكن أصحاب القرار لا يفكرون بالتنازل عن مكاسبهم، بل يستجدون حلول خفض التكلفة على الجانب الأخر من الحدود.
وَفْقاً لـِرئيس اتحاد شحن البضائع الدُّوَليّ صالح كيشور تبلغ تكلفة السيارة من تركيا إلى العراق 1800 دولار ومن إيران أقل من ذلك، ولكن بتكلفة تتجاوز 7 ألاف دولار للبراد الواحد تصبح الحمضيات السورية غير منافسة في السعر، ويقول رئيس لجنة التصدير إن حمضيات جنوب أفريقيا التي تأتي عبر البحار أكثر تنافسية في السوق العراقية من الحمضيات السورية، وللعلم بتكلفة 7 ألاف دولار يمكن نقل حاويتين بنفس الحجم من المملكة المتحدة إلى العراق.
من الملفت في هذا الجدول أن ثلث التكلفة تعود للموافقات ومن الغني عن القول إنها إجراءات غير نظامية ويعود ريعها لأصحاب النفوذ الذين يبلغ دخلهم من هذه الموافقات مئات آلاف الدولارات من معبر واحد فقط.
أضف تعليقًا