الأرشيف

السلايد الرئيسي دستور وقانون

الخلافة السعودية والإصلاحات الاجتماعية والثقافية والدينية لمحمد بن سلمان

أجاب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان على الأسئلة خلال مؤتمر صحفي عقد في الرياض ، في 25 أبريل 2016. أعلن سلمان خطته للإصلاح الاقتصادي المعروفة باسم "رؤية 2030". / صور VCG
أجاب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان على الأسئلة خلال مؤتمر صحفي عقد في الرياض ، في 25 أبريل 2016. أعلن سلمان خطته للإصلاح الاقتصادي المعروفة باسم "رؤية 2030". / صور VCG

لم يفهم المراقبون الخارجيون بشكل كاف ضخامة إصلاحات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في المملكة العربية السعودية. في دولة عمرها ثلاثمائة عام عانت صراعات دامية في الخلافة الملكية، جاء حله لمشكلة تعاقب الأجيال الملكية سابقة لامثيل لها في القرن، كما همش جدياً طبقة رجال الدين الرجعيين التي كانت فعلياً مديراً مشاركاً للمجتمع – كل ذلك مع شيء لا يذكر من العنف أو تعطيل المجتمع.

يتطلب التقييم السليم لولاية وإنجازات ولي العهد محمد بن سلمان سياقاً تاريخياً وإدراكًا كاملاً لضخامة التغييرات التي حدثت على أرض الواقع في المملكة العربية السعودية منذ تعيينه في عام 2017.

توجد حجة قوية على أن ما حدث في المملكة العربية السعودية منذ ذلك الحين هو في الواقع ثورتان متتاليتان. إحداهما تولي الملكية بلا دماء والأخرى نزع فتيل الطبقة الدينية الرجعية، مع تأثير على دور الإسلام محلياً وحتى عالمياً، ما يشبه تهميش دور الكنيسة الكاثوليكية التي استغرقت الأوروبيين مئات السنين والحروب الدينية لتحقيقها.

دعونا ننظر إلى الخلافة الملكية أولاً. مع تعيين الملك سلمان ولياً للعهد في عام 2012، كان من الواضح للجميع أن العرش لواحد فقط من بين العديد من أبناء المؤسس الملك عبد العزيز، وأن عصر التداول انتهى. يجب أن تنتقل هذه السلطة قريباً إلى الجيل التالي، مع وجود مئات من أحفاد المؤسس مؤهلين أكاديمياً ويرى العشرات منهم أنفسهم من مستحقيها. لم يكن هناك نظام معمول به لاتخاذ هذا الخيار، وكان التوجيه الوحيد المنصوص عليه في القانون الأساسي السعودي هو منح العرش “الأكبر سناً والأجدر”. يقلل المحللون الآن وبعد فوات الأوان من احتمالية صراع دام بين الأخوة في هذه الخلافة، كما يتجاهلون ليس فقط تاريخ السعودية العنيف بل وحقيقة وجود قلة من الأمراء البارزين توقعوا وصولهم إلى العرش نظراً لأقدميتهم وسجلهم في الحكم وقاعدة السلطة المفترضة سابقاً مع عدم وجود طريقة للفصل بين منافسيهم. لم يكن الصراع الأهلي وارداً بالتأكيد.

أجاد نبيل مولين من المعهد الفرنسي للدراسات السياسية بباريس تحليل هذا الصدع الهيكلي في الأسرة، مشيراً إلى أن الملك عبد العزيز مؤسس المملكة الحديثة (الدولة السعودية الثالثة) حين “كان قادراً على إعادة عائلته إلى العرش عام 1902، لم يفعل شيئاً لتثبيت نظام الخلافة القادر على حماية المملكة من صراعات الأشقاء خلال فترة خلافته. بدلاً من ذلك، كان مهتماً بالقضاء على العشائر الأخرى من التنافس مع أبنائه، ولا سيما إخوته وأبناء عمومته”.

وبمرور الوقت، أثار هذا الغموض قلقاً متزايداً واضطراباً ومكائدَ سياسية بين النخب السعودية بلغت ذروتها مع قيام أبناء الملك عبد الله بمحاولة سيئة فاشلة فكرةً وتنفيذاً للاستيلاء على خط الخلافة في السنوات الأخيرة من حياته.

ويمضي مولين في تسليط الضوء على حروب الخلافة التي أطاحت بالدولة السعودية الثانية (24-1889) وأجبرت والد الملك عبد العزيز على المنفى في الكويت: “يعكس تاريخ الدولة السعودية الثانية المشاكل التي قد يؤدي إليها هذا النمط المبهم من التوريث. كان من سمات هذه الفترة اغتيالات (قتل الأميرين تركي ومشاري)، وصراعات بين الأشقاء (حروب الأمير فيصل وأقاربه ثم بين أبنائه بعد وفاته)، [و] التدخلات الأجنبية (العثمانيون والرشيد). في الواقع، كانت أزمة الخلافة السبب الرئيسي لانهيار الدولة السعودية الثانية عام 1891. “

بالنظر إلى هذا التاريخ العنيف، كانت التسوية بين العديد من أفراد العائلة المالكة مستحيلة. اعتبر هؤلاء أنفسهم (وكذلك جمهورهم) مؤهلين. لذلك كان لا بد من فرض حل غير توافقي لمشكلة الخلافة لإخراج البلاد من صراع داخلي. وإنها لبركة وصول الملك سلمان إلى العرش في هذا الوقت الحرج. فالملك سلمان ممارس بارع وناجح للسياسة السعودية منذ الخمسينيات.

بصفته مشاركاً ومراقباً وثيقاً لأعقد تفاصيل الحكم الملكي في العقود الماضية، لم يكتفِ سلمان ببناء آراء راسخة متعلقة بقضايا الحكم الداخلي خلال العقود التي قضاها في السلطة فحسب، بل حدد أيضاً ابنه السادس الصغير، محمد، كخليفة محتمل له. وهي خطوة ثورية تتعارض بشكل كبير مع تقاليد آل سعود. كل ذلك بخلاف سلفه الملك الراحل عبد الله الذي لم يدخل قلب حرم اتخاذ القرار قبل تتويجه. حتى والد سلمان، الملك عبد العزيز، تجنب تجاوز ابنه الأكبر سعود لمصلحة ابنه الثاني الأكفأ، فيصل، احتراماً للأولوية من حيث السن بين أبنائه الكثيرين. لم يتجاوز الملك سلمان إخوته الباقين فحسب، بل تجاوز أيضاً العديد من أبناء أخيه الأكبر سناً وأبنائه الأكبر سناً في هذه الخطوة الجريئة من خلال تعيين محمد بن سلمان خلفاً له عندما اعتبر جميع المراقبين تقريباً أن محمد بن سلمان صغير جداً وبلا خبرة ليستحق الخلافة.

لكن ما فات المراقبين هو أن الناس، خطأً، يُعلون من شأن الشهادة الجامعية على الخبرة العملية وذلك بسبب انتشار التعليم الحديث، في حين أن المراس والتدريب كانوا لآلاف السنين الأسلوب الأساسي والأنجح في التعليم. في حالة حاكم شرق أوسطي، كان التعليم الأجنبي ذا فائدة عملية قليلة لأنه يبعد المرء عن المجتمع ويشجع النخبوية وينطوي على التركيز على النظرية بدلاً من الممارسة. أدرك الملك سلمان أنه لكي تستمر الملكية وتتخطى هذا الوقت الحساس من تاريخها، فإنها تحتاج إلى قائد جريء وحاسم وقوي لفرض إرادته على النخبة المتغطرسة والمؤهلة خففت من حدتها عقود من الرفاهية والامتيازات. بالإضافة إلى ذلك، تلهت تلك النخبة السعودية، وهي شبكة واسعة من الأقارب الملكيين، بالتكاثر ما صعب إدارتها في السنوات الأخيرة من حياة الملك عبدالله.

أدرك سلمان أيضاً ضرورة تقليص دائرة الاستحقاقات والامتيازات الملكية. فالبلاد لم تعد قادرة على تحمل تكاليف عشرات الأمراء الكبار، لكل نفقات عامة تصلح لملك، فضلاً على الآلاف من أفراد العائلة المالكة من الدرجة الثانية والثالثة الذين ما يزالون يطالبون بامتيازات واستحقاقات واسعة ويحصلون عليها. كما أدرك بغريزته أن النُخَب نادراً ما تتخلى عن امتيازاتها طواعية، ولو أنها تمعنت بالتاريخ ستفهم أنها ستحتفظ باستحقاقاتها حتى مع التخفيض المنظم لامتيازاتها. وهذا يشمل وضعهم الاجتماعي وثرواتهم حتى حياتهم وبلدهم (بدلاً من المنفى والإذلال الذي يخبئه عالم قاس للنخب المخلوعة المحظوظة إذ تنجو من الثورة)، محققين بذلك أعلى مستويات الحكمة بدلاً من التمسك بعناد باستحقاقات وامتيازات زائلة قد ينتهي بها الأمر إلى انتزاعها بعنف يوماً ما من قبل الغوغاء الغاضبين والطامعين والثوريين متسلقين جدران قصرها.

بالنتيجة، أثبتت النخب الحاكمة عبر التاريخ أنها والحكمة قطبان متنافران، ربما يستثني التاريخ الطبقة الأرستقراطية البريطانية التي تجنبت المقصلة وتفاوضت على هبوط ناعم للاحتفاظ بوضعها المتميز الاستثنائي حتى اليوم.

رأى الملك في ابنه المراهق السادس صفات فريدة كالجرأة والحسم والتصميم القوي، فبدأ في تدريب محمد في سن الخامسة عشرة من طريق السماح له بالجلوس والمراقبة والاستيعاب في أثناء عمل سلمان. كان هذا التدريب مع الممارس الأول للسياسة السعودية في ذلك الوقت فرصة تشربها محمد بن سلمان كاملاً بمهارته وطموحه حتى في حداثة سنه. وباعتلائه العرش كان قد استوعب خبرة أكثر من عقد تلقى فيه كل التوجيه من أعلى دوائر الحكومة والسياسة، وبذلك تولى السلطة وفي جعبته قدر كبير من المعرفة والخبرة في الحكم السعودي. سمح له ذلك، تحت إشراف مستمر من والده، بالاندفاع بقوة إلى الساحة المحلية والدفع نحو تغييرات وإصلاحات هائلة، وهو إنجاز لم يسبق له مثيل منذ عقود في أماكن أخرى، فضلاً على إنجازه في سنوات قصيرة.

واليوم، قُلّص حجم العائلة المالكة إلى حد بعيد وبطريقة عملية (وإن لم تكن بحكم القانون)، فخفضت الامتيازات والاستحقاقات أو قلصت بالجملة، فاستعادت الحكومة الأصول التي يُنظر إليها على أنها هبة من الدولة (كالأرض المجانية خارج حدود الدولة بما يتجاوز المخصصات السخية الممنوحة لأفراد العائلة المالكة). تحقق بذلك توفير مليارات الدولارات لخزينة الدولة، وتقلص الامتداد الملكي في المجتمع جذرياً حجماً وامتداداً. من المسلم به أن كل هذا حدث في ظل استعداد واضح من قبل النظام الملكي ليكون قسرياً (مع سجن عدد قليل من كبار أفراد العائلة المالكة المتمردين)، لكنه حدث دون إراقة دماء، ما يعتبر شذوذاً تاريخياً بالمعايير السعودية ومعظم السلالات الحاكمة التي يمكن للبلاد أن تتنفس الصعداء من أجله.

كان هذا التحول وحده كافياً كتتويج لعهد الملك سلمان، لكن النظام الملكي لم يتعثر، وبعد صعوده، شرع في مواجهة ثاني أقوى ركيزة للعرش، المؤسسة الدينية الرجعية (التي يُطلق عليها غالباً “الوهابية”)، وهي ثورة دينية من حيث التأثير.

خضعت آليات وأدوات النفوذ الديني وسيطرته في الدولة لإعادة هيكلة ثورية شملت ما يلي:

أولاً، فكك محمد بن سلمان هياكل وشبكات الإسلام الراديكالي داخل البلاد بواسطة إسكات الأصوات القيادية المتشددة وأولئك الذين ينادون بعدم التسامح ضمن المؤسسة الدينية الوهابية بسجنهم. وكانت هذه إشارة لأي رجل دين حيادي إلى أن الاعتدال واللاعنف هما الآن المسار الوحيد المقبول في المملكة العربية السعودية.

ثانياً، أعاد صياغة المناهج التعليمية، واستبعد المحتوى غير المتسامح، وركز بدلاً من ذلك على الاعتدال. وأجري أكثر من 120.000 تغيير فردي على الكتب المدرسية حتى الآن.

ثالثاً، فرض حظراً على اللغة المتعصبة والمذهبية من أي وسيلة إعلام داخل المملكة.

رابعاً، ركز على خلق أنشطة إيجابية متعددة للشباب السعودي لمنحهم الفرص وفتح آفاق تتجاوز الهوية الدينية. على الرغم من أنه من السهل نسيان أن الموسيقى والرقص المختلط في الأماكن العامة كانا مخالفين للقانون في المملكة قبل خمس سنوات فقط، إلا أن الرياض اليوم تشهد مهرجانات في الشوارع، إلى جانب دور السينما التي تعرض أفلام هوليوود، وأصبح مشهد الدراما المحلية نابضاً بالحياة. ودعماً لكل هذا، قدم برنامج جديد للمنح الدراسية الأجنبية لكلا الجنسين في مجال الفنون، كما أسس العديد من الأكاديميات المحلية.

خامساً، فتح المجال العام للتفاعل الحر بين الرجال والنساء. كانت حرية المرأة سابقاً محدودة فيما يتعلق بالعمل والسفر. كما عُيّن مؤخراً نساء في مناصب عامة، من سفيرات إلى سلك الشرطة والحرس الملكي، وهو أمر لا يمكن تصوره في المملكة قبل عقد فقط. إضافة إلى ذلك، الرياضة مفتوحة الآن للنساء من ملعب المدرسة إلى بطولات كرة القدم المحلية وصولاً إلى الألعاب الأولمبية.

وأخيراً، قطع التمويل عن أي منظمة في أي مكان في العالم تتبنى تفسيرات رجعية للإسلام. لم تعد المدارس السلفية تتلقى أي تمويل سعودي رسمي أو خاص، وأي دعم متبقٍ للمساجد أو المنظمات الإسلامية الأخرى في الخارج يجب أن يحظى بموافقة رسمية من سلطات الأمن القومي في كل دولة مضيفة. زيادة على ذلك، أعيد توجيه المنظمات الإسلامية الدولية مثل رابطة العالم الإسلامي نحو تعزيز التسامح والتفاهم بين الإسلام والأديان الأخرى. وفي الوقت نفسه، سُمح للمؤسسة الدينية الرسمية (المجلس الأعلى للعلماء والمفتي وغيرهم) بالحفاظ على امتيازاتها ووظائفها ومكانتها، حتى مع تضاؤل نفوذها بشكل كبير.

والأهم من ذلك، أن هذه الإصلاحات أشارت أيضاً إلى العالم الإسلامي أن المملكة قد اعتمدت الاعتدال والانفتاح سياسة عامة لها. وهذا سيركب حتماً أنموذجاً يحتذيه المسلمون الآخرون، ولا سيما أولئك الذين يعتبرون التفسير السعودي للإسلام الشكل والممارسة الصحيحان.

اليوم، يشعر الرجعيون في جميع أنحاء العالم الإسلامي بالغضب إزاء هذه الإصلاحات الثقافية والدينية السعودية لأنهم يفهمون بوضوح كيف سيقوض ذلك رسالتهم المعادية وغير المتسامحة مع الأجانب لدى جماهيرهم.

ومع ذلك، حرص محمد بن سلمان على ألا تكون المملكة أرضاً خصبة للتفكير الرجعي وغير المتسامح، وجفف الموارد التي كانت تغذي هذا التفكير. لم يحظَ هذا التغيير الهائل بالاهتمام أو التقدير الذي يستحقه من المحللين بالرغم من تنفيذه دون أي رد فعل شعبي تقريباً وآثاره المعتدلة الرئيسة على المسار المستقبلي للممارسات الإسلامية.

يميل النقاد إلى التقليل من أهمية هذه “الثورة” وتقليل مضمونها وحجمها بوصفها في كثير من الأحيان بأنها “القضاء على الشرطة الدينية”، في حين أنها كانت في الواقع إعادة هيكلة شاملة لدور طبقة رجال الدين في المجتمع وتحويلهم من شريك في إدارة المجتمع إلى لاعب الهامشي. في الواقع، لم يكن الغرب قادراً على فرض تغيير بهذا الحجم إلا بعد مئات السنين من الاضطرابات والعنف، وانتهت مؤخراً في منتصف القرن العشرين بالحرب الأهلية الإسبانية. يمكن رؤية مدى الوحشية المناهضة لرجال الدين التي ارتكبها الجانبان في تلك الحرب الأهلية في هذا المثال. وفقاً لإحدى الروايات، “الأرقام المقبولة لأعداد الكهنة ورجال الدين الذين قُتلوا في المنطقة [الفاشية] في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية بالكاد يمكن تصديقها، لولا بحث مضنٍ أجراه أنطونيو مونتيرو [مورينو] في أواخر الخمسينيات. وفقاً لهذا البحث، ذُبح 6832 من رجال الدين الكاثوليك، بما في ذلك 13 أسقفاً و 4172 من كهنة الأبرشيات واللاهوتيين و 2364 ناسكاً وراهباً و 283 راهبةً. تتجاوز هذه الأرقام المذبحة الجماعية التي وقعت في نفس الوقت في المنطقة الجمهورية (الشيوعية) في إسبانيا. إذاً تضمنت علمنة المجتمع استخداماً مكثفاً للعنف في أوروبا، بينما اتخذت المملكة العربية السعودية نهجاً آخر.

كانت المملكة بلدًا أعطيت فيه المؤسسة الدينية الرجعية سلطة على الثقافة والتعليم والمؤسسة القانونية، والتأثير الكبير على وسائل الإعلام والخطاب العام. لقد رأوا في هذا حقاً لهم وفقاً لتفاهم تم التوصل إليه منذ مئات السنين بين مؤسس الأسرة السعودية والشيخ محمد بن عبد الوهاب مؤسس المذهب الوهابي في الإسلام. كان هذا تفسيراً رجعياً وأصولياً وغير متسامح للدين الذي خدم الأسرة جيداً على مر القرون من خلال منحها الشرعية والجزاء الديني وتنظيم وتأديب شعبها وتلقينهم الخضوع للحكم الملكي. وبعد أن أعاد مؤسس المملكة السعودية الحديثة تأسيس الأسرة الحاكمة في العقود الأولى من القرن العشرين، لعبت هذه المؤسسة دوراً حاسماً للغاية ليس فقط في الموافقة رسمياً على الملك عبد العزيز كحاكم شرعي ولكن أيضاً في الخروج بين قبائل وقرى وسط الجزيرة العربية وأخذ البيعة له وإطلاق التسمية الخطيرة “الجهاد المقدس” على حربه لتوحيد شبه الجزيرة العربية وتشريب البدو عقيدة القتال ضد أعدائه من خلال شجب هؤلاء بأنهم كفار، وبالتالي إضفاء الشرعية على “الحرب المقدسة” ضدهم. لم تكن الدولة السعودية لتتحقق لولا هذا الدعم الديني الذي امتد في النهاية إلى الموافقة على تدمير تلك عناصر القبلية المقاتلة الذين أسكرها “جهادها” لدرجة رفضهم التوقف عندما قرر الملك عبد العزيز بحكمة الوصول إلى اتفاقية مع الإمبراطورية البريطانية واحترام حدودها مع المملكة على الخليج العربي / الفارسي.

وفي وقت لاحق، لعبت المؤسسة الدينية دوراً داعماً قوياً في محاربة الأيديولوجيات المناهضة للملكية التي اجتاحت المنطقة – من الشيوعية إلى القومية العربية ثم إلى الجمهورية العسكرية العربية – وكانت أيضاً حاسمة في الموافقة على استخدام القوات الأمريكية ودفعها إلى المملكة السعودية العربية لتحرير الكويت. كان هذا القرار مثيرًا للجدل بين العناصر الأصولية لدرجة أنه ولد تنظيم القاعدة وحرض أسامة بن لادن الذي رأى وصول الجيش الأمريكي إلى المملكة تدنسًا للأرض المقدسة.

ومن المفهوم أن المؤسسة الدينية بدورها تتطلع إلى الحصول على نصيبها من الكعكة لمثل هذا الولاء والخدمة، واضطر الحكام السعوديون المتعاقبون إلى السماح لرجال الدين بنفوذهم شبه الحر على القطاعات المهمة في الدولة السعودية.

ومع ذلك، رأى محمد بن سلمان شيئاً في المجتمع لم يفهمه سوى القليل في ذلك الوقت، وهو أن التعرض لوسائل الإعلام الأجنبية بدءاً من القنوات الفضائية في أواخر التسعينيات ثم الإنترنت وتجربة التحرير الإقليمي في دول الخليج المجاورة مثل الإمارات العربية المتحدة والبحرين كان له تأثير تحرري عميق على الشباب السعودي (جيله) الذين يشكلون غالبية سكان البلاد. وخلص إلى أن الوقت قد حان لفصل المجتمع عن ميراثه الرجعي من رجال الدين.

وهنا، أخذ محمد بن سلمان مجازفة محسوبة بأن الرأي العام ذي الأغلبية سيدعم إصلاحاته الجريئة، مع أنّ الحكمة التقليدية كانت تقول إن الجميع تقريباً على بعد عقود من قبولهم في مجتمع كان ما يزال يرى مثل هذه التغييرات على أنها شديدة المحافظة.

بالرغم من أن الدولة مارست قدراً من القوة الواضحة لتطبيق هذه الإصلاحات باعتقال المئات من رجال الدين الذين يُحتمل أن يكونوا متمردين وطموحين سياسياً، إلا أن أحداً منهم لم يُقتل ولم يكن تطبيق عنف الدولة لدعم ذلك ضرورياً. وفي حين أن سجن رجال الدين هؤلاء، وبعضهم لديه ملايين المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي، زاد بالتأكيد من تقييد الحريات السياسية في البلاد، يمكن القول إن هذا الإكراه منع رجال الدين المحافظين من تحريض أتباعهم على أي تمرد مسلح، على الرغم من أن دعم الشباب اللاحق للتحرير الاجتماعي والثقافي سيجادل بأنه حتى لو حاولوا تأجيج الرأي العام، فمن المحتمل أن يحصلوا على القليل من الزخم. الأمر الأكثر غرابة هو أن إصلاحات مثل قيادة النساء للسيارات والترفيه العام تثر حادثة عنف واحدة جديرة بالملاحظة (يبدو أن هجومًا فاشلاً بسكين من قبل مواطن يمني وحرق سيارة فارغة تخص امرأة هما الحادثان الوحيدان المنفردان). زيادةً على ذلك، حدث هذا النجاح في بلد كان قبل بضع سنوات فقط يخوض حرباً مفتوحة ضد الإرهاب الجهادي في بلداته ومدنه.

بدأت هذه الحرب التي أودت بحياة الآلاف من المواطنين السعوديين والأجانب في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك العسكريون والمواطنون الأمريكيون، في عام 2000 وتلاشت فقط في عام 2016، بعد أن سحقتها قوات الأمن السعودية. جاء الإرهاب من القاعدة أولاً ثم داعش. من الجدير بالملاحظة أن هذه المنظمات والجماعات الجهادية الأخرى لم تكن قادرة على التجنيد أو إعادة البناء منذ تحرير محمد بن سلمان الاستفزازي (بالنسبة لها) للمجتمع الذي كان يتوقع المرء أنه سيعيد إشعالها. من الواضح أن دعمهم في المجتمع قد جف، حيث أدرك الشباب أنهم يريدون الاستمتاع والذهاب إلى الحفلات الموسيقية ومقابلة أفراد من الجنس الآخر وعدم الغرق في الغضب والمرارة الأصولية في انتظار الآخرة.

أثارت هذه الإجراءات القسرية التي اتخذتها الحكومة انتقادات شديدة للمملكة من قبل منظمات حقوق الإنسان في الغرب. حقوق الإنسان مطلقة بالطبع وينبغي ألا تقبل من حيث المبدأ بأي حل وسط. ومع ذلك، يتعين على الحكام أن يوازنوا بين أهداف متعددة منها الحفاظ على النظام العام ومنع التمرد (في المنطقة الأكثر تقلباً على وجه الأرض اليوم)، وقد تتعارض هذه الأهداف مع معايير حقوق الإنسان. ما مقدار المعاناة الهائلة التي كان على العراق أن يمر بها في تجربته التي لم تنته بعد مع “الديمقراطية”؟ تجنبت المملكة العربية السعودية أي نوع من العنف السياسي المحلي. تشعر القيادة السعودية أنه لا خيار أمامها سوى استخدام الإكراه للحفاظ على الهدوء الاجتماعي. هل يمكن أن يخففها بلمسة أكثر نعومة؟ ربما بعد فوات الأوان، ولكن في بلد ذي أقطاب رأي متطرفة تتراوح من الليبرالية الغربية إلى التطرف الوهابي، لم يكن من المستغرب أن يستخدم محمد بن سلمان يداً أثقل مما قد يكون ضرورياً. الشرق الأوسط مُمتلِئ بالاضطرابات وهو يقاتل لإبقاء أمته سليمة معافاة. هذا التحول، الذي مزق سلطة الأمراء ورجال الدين مع القليل من الإكراه، يفوق بتصميمه القدرة السحرية لأي شخص على تحقيقه.

بمقياس الرأي العام تعتبر المملكة مكاناً صعباً، نظراً لغياب الانتخابات وحقيقة أن مبدأ الاقتراع في بدايته. ما يزال الناس خائفين من مشاركة إجاباتهم على أسئلة الاقتراع مع السلطات، لذلك، وللحصول على فكرة عن الرأي العام علينا البحث عن أدلة بين الحكايات والنوادر. تعد المشاركة الهائلة للشباب في الترفيه العام، في بلد يعد الشباب فيه الأغلبية، مؤشراً مهماً. لم يكن برنامج الإصلاح السعودي تمريناً نخبوياً يُجرى في مجتمعات مسورة لجمهور حصري، ولكنه عملية مفتوحة وشفافة للجماهير، خرج فيها مئات الآلاف من الشباب من كلا الجنسين إلى الشوارع. في الواقع، كان السعوديون يصوتون بنزولهم لمصلحة إصلاحات محمد بن سلمان.

نقطة إثبات أخرى ذات أهمية هي عدم وجود أي اضطرابات عامة. يعزو النقاد ذلك إلى كون السعودية “دولة بوليسية”. من نواحٍ معينة هي كذلك، لكنها دولة معتدلة. ينسى الناس أن أكثر الدول البوليسية وحشية، كسوريا بشار الأسد أو إيران آيات الله، لم تكن قادرة على منع الناس من الخروج إلى الشارع عندما انفجر غضبهم. لذلك، فإن حقيقة أن الاحتجاجات العامة كانت شبه معدومة في المملكة العربية السعودية هي مؤشر جدير بالملاحظة، مما يسمح لنا بالاستنتاج بأمان أن غياب الاحتجاجات ضد الإصلاحات ربما يشير إلى أنها تحظى بدعم واسع النطاق.

كل حياة تُزهق وكل سجن بسبب التعبير عن رأي الفرد أو الانخراط في احتجاج سياسي غير عنيف أمر مؤسف في عصرنا هذا. عندما يحدث ذلك في المملكة العربية السعودية، أو في أي مكان آخر، فإنه يستحق النقد. ومع ذلك، على العديد من النقاد الغربيين للمملكة العربية السعودية إدراك أنه لم تحدث حرب على الخلافة في المملكة العربية السعودية وأن رجال الدين قد نزع فتيلهم دون عنف وأنه لم يرتكب الجهاديون أي هجمات إرهابية على الرغم من القفزات الكبيرة في تحرير المجتمع ما حقن الدماء وحافظ على الممتلكات. على الطالب الصادق في التاريخ أن يدرك مدى حظ وفعالية القيادة السعودية في إدارة كل هذه التحولات المحفوفة بالمخاطر دون عنف تقريباً وإكراه محدود، وأن مثل هذا الإكراه (السجن أساساً) ربما منع اندلاع حرب (بل حروب) أهلية. على منتقدي الرياض الأمريكيين أن يتذكروا كيف علق الرئيس أبراهام لينكولن حق المثول أمام القضاء في مواجهة تمرد الولايات الجنوبية.

وهذا لا يعني أننا ينبغي أن نتجاهل أوجه القصور أو الفشل التي تعانيها أي عملية من هذا القبيل حتما. كان العنف المستخدم معتدلاً بالمعايير التاريخية، مع أنّه من المشروع الادعاء بأنه كان من الممكن تنفيذ الأمور بلمسة أخف في كثير من الحالات، نظراً للدعم الشعبي الواسع الذي يبدو أن محمد بن سلمان يحظى به بين الشباب السعودي. إن أفعالاً مثل ولوغ أجهزة الدولة في دم جمال خاشقجي واعتقال الناشطات وإساءة معاملتهن بشكل واضح لا تغتفر بأي معيار، ولكن نظراً لحجم التغيير والاضطراب الذي نجح المجتمع السعودي في تجاوزه، فإن وتيرة مثل هذه الأعمال الشنيعة كانت محدودة النطاق نسبياً في نطاق أي معيار تاريخي معقول أو حتى معاصر، ومن غير المرجح أن تتكرر مثل هذه العثرات من قبل دولة طاهرة الآن.

ومن الآن فصاعداً ما تزال هناك تحديات تواجه الدولة السعودية، ولكنها أكثر على الجانب الاقتصادي، لأن الخلافة فُرزت وهي في طريقها إلى أن تصبح عمودية (أب لابن) بدلاً من عملية أفقية وانفتاح المجتمع رسميًا على العالم وسمح للنساء بالاندماج الكامل في القُوَى العاملة والثقل القمعي للإسلام الرجعي في طريقه للخروج، بعد كل ذلك لم يتبق إلا دعم كل هذا التغيير والسماح له بالتغلغل في جذور المجتمع العميقة، وإعداد البلاد لمستقبل فيه توقعات غير مؤكدة للنفط.

هذه الأهداف أقل خطورة من حيث المخاطر المباشرة من التطورين التاريخيين الرئيسين المذكورين سابقاً، لكنها ستظل تتطلب يداً ثابتةً ومتسقةً خلال العقود القادمة. كما سيتطلب في نهاية المطاف شكلاً من أشكال الإصلاح السياسي، الذي كان من الواضح أنه خارج جدول الأعمال حتى الآن، ولو كان فقط لفرض بعض الضوابط والتوازنات على السلطة المطلقة. الآن، دون السلطة المطلقة، لم يمكن أي من الإصلاحات الهيكلية التاريخية التي نوقشت أعلاه ممكناً، وسوف تكون هناك حاجة في المستقبل المنظور إلى زعيم قوي وسلطة تنفيذية قادرة على قيادة السياسات والحفاظ على الاستقرار في الجوار الخطر وهو الشرق الأوسط. ومع ذلك، نظراً للمخاطر المعروفة المتمثلة في وجود سلطة مطلقة غير خاضعة للرقابة بمرور الوقت، فإن بعض أشكال الضوابط والتوازنات لتقوية الملكية واستبدال الشرعية التي كانت توفرها طبقة رجال الدين سابقاً ستكون بمنزلة حل مثالي للعمل تدريجياً من أجله في العقود القادمة.

المصدر: اضغط هنا

وائل رئيف سليمان

محرر صحفي، مترجم ومدير محتوى. حاصل على إجازة في الإعلام من كلية الإعلام والصحافة في جامعة دمشق 2005/2006. عمل محررا وكاتبا في الشؤون الدولية ومدير تحرير ومحتوى في وسائل إعلام سورية وعربية.

أضف تعليقًا

اضغط لإضافة التعليق