ترجمات_ دريل
يدور الجدل الأساسي المتعلق برابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) حول أهمية المنظمة وقيمتها بالنسبة للسلام والاستقرار الإقليميين. يؤكد المدافعون عن (آسيان) مساهماتها في الحوار وبناء الثقة في المنطقة، بينما يشير المنتقدون إلى افتقارها التأثير على كل من التساؤلات الاستراتيجية الكبيرة التي تواجه المنطقة وأيضاً في صياغة سلوك بعض الدول الأعضاء فيها.
مع اشتداد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة ومع انتشار التدابير التعاونية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ التي تدور حول التحالفات ذات التوجه المشترك، فإن دور الآسيان ومركزيتها – مع دفاعها التقليدي عن التعددية الواسعة والشاملة – في الهيكل الإقليمي قد تعرض لضغوط متزايدة. تتألف الرابطة من عشر دول صغيرة ومتوسطة الحجم في جنوب شرق آسيا وعمرها يزيد على الخمسة عقود ما يؤهلها للتعامل مع تقلبات ديناميكيات القُوَى الكبرى. ومع ذلك، تشير الاتجاهات الأخيرة في التعددية الإقليمية إلى أن الآسيان قد تكون في منعطف حرج في تطورها.
التجمعات المتنافسة في المحيطين الهندي والهادئ
أول اتجاه ستدرسه هذه المقالة هو نمو الآليات الصغيرة / المتعددة الأطراف التي يمكن أن تتطور على المدى الطويل لتعمل بالتوازي مع التدابير التي تقودها الآسيان – وتحل محلها بنهاية المطاف.
خير مثال على ذلك الحوار الأمني الرباعي (Quad)، الذي عقد قمته الافتتاحية للزعماء في 12 مارس 2021. ولدت هذه التركيبة الرباعية التعديل (الرباعي الموسع) “Quad-Plus” الذي قد يشهد في نهاية المطاف دولاً مثل كوريا الجنوبية ونيوزيلندا وفيتنام وفرنسا وألمانيا و / أو المملكة المتحدة تنضم إلى إطار عمل تعاوني يركز على أعضاء الرباعية الأربعة. ومن الأمثلة على المبادرات الثلاثية الأخرى المتنافسة اجتماع أستراليا والهند وفرنسا الذي تم إطلاقه في عام 2020.
مع أنّ بنية الأمن الرباعية قد تظل احتمالاً بعيداً في الوقت الحالي، فقد ظهرت بعض أوجه التشابه الهيكلية بين الرباعية ورابطة دول جنوب شرق آسيا. وكما هو معروف، فإن كلا المجموعتين من الترتيبات لديها مجموعة أساسية (الدول الرباعية وأعضاء الآسيان على التوالي)، وكلاهما سعى إلى بناء طبقة ثانية من الحوار متعدد الأطراف والتعاون مع الشركاء الرئيسين. وبهذا المعنى، يجب مراقبة إنشاء المجموعة الرباعية لآليات يحتمل أن تكون متنافسة عبر المحيطين الهندي والهادئ من كثب.
منصات متعددة الأطراف تتمحور حول منطقة ميكونغ الفرعية
الاتجاه الثاني ينطوي على بروز متزايد للقضايا المحيطة ببعض أحدث الدول الأعضاء في الآسيان، مثل كمبوديا وميانمار. وقد أثيرت تساؤلات حول تنشئتهم الاجتماعية في أعراف الآسيان وطريقة التعاون. على سبيل المثال، بعد اجتماع غير رسمي لوزراء خارجية الآسيان دعا إلى وقف العنف الناجم عن الانقلاب الأخير في ميانمار وحث على ضبط النفس، زاد عدد القتلى من الاحتجاجات في الواقع في اليوم التالي.


وبعيداً عن السياسة الداخلية، فإن موقف دول الآسيان المنضمة حديثاً المتمركزة على نهر الميكونغ قد برز مؤخراً في صدارة الديناميكيات الإقليمية. نظراً لكونه نهراً يمر عبر الصين وكمبوديا ولاوس وميانمار وتايلاند وفيتنام، فقد تلقى نهر ميكونغ في الآونة الأخيرة اهتماماً متزايداً من دول مثل الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية. أطلقت الأولى شراكة ميكونغ-الولايات المتحدة مع دول ميكونغ الأدنى الخمسة في عام 2020 – بالتوسع في مبادرتها السابقة مبادرة الحوض الأسفل لنهر ميكونغ- بينما أنشأت الأخيرة قمة ميكونغ وجمهورية كوريا الشمالية التي انعقدت قمتها السنوية في عام 2019. توجد هذه الترتيبات جنباً إلى جنب مع آلية تعاون لانسانغ-ميكونغ الصينية التي تم إطلاقها في 2016.
تتضاعف الآليات المتمحورة حول شؤون منطقة ميكونغ الفرعية الآن بالتوازي مع الآسيان التي أدّت دورًا ضئيلاً نسبيًا في قضايا نهر ميكونغ حتى الآن. تذكرنا بصعود منطقة المحيطين الهندي والهادئ والآليات المصاحبة لها، ويمكن أن تكون المشاركة الخارجية المتزايدة في نهر الميكونغ – ولا سيما في شكل تعددية الأطراف – عاملاً آخر في تشكيل أهمية رابطة أمم جنوب شرق آسيا في المنطقة مستقبلاً.
السيناريو الأول انعدام الترابط
بفرض استمرار الاتجاهين المذكورين أعلاه وترسيخهما طوال العقد المقبل أو ما بعده، ستحدد هذه المقالة سيناريوهين محتملين في المستقبل لرابطة أمم جنوب شرق آسيا. ولا يتوقع أي منهما زوال الآسيان، لكنها تقترح مسارات متعارضة لدورها في المنطقة.
الاحتمال الأول هو أن تزداد الآسيان بعداً عن قضايا المنطقة. في ظل هذا السيناريو، ستكثف القُوَى الكبرى مثل الصين والولايات المتحدة جهودها لبناء ترتيبات إقليمية متعددة الأطراف متنافسة. إزاء احتدام المنافسة، قد تجد بكين وواشنطن أن الحوار الثنائي لم يعد مفيداً، لذا فإنّ التعددية الشاملة لم تعد تخدم مصالحهما.
من جانبها، فإن استمرار عجز الآسيان عن معالجة القضايا الاستراتيجية الكبرى في المنطقة – بطريقة مرضية لغالبية المشاركين – من شأنه أن يؤدي إلى تلاشي أهمية المنظمة تدريجياً. يعني هذا بالضرورة أن قضايا مثل بحر الصين الجنوبي وشؤون ميكونغ ستتسم بالتوترات والخلافات أكثر منها بالتعاون.
بانجذاب الدول الإقليمية إلى المزيد من الشبكات التعاونية الحصرية، قد تضطر إلى الاختيار بين الالتزام الكامل بالآليات التي تقودها القوى الكبرى المعنية أو دعم هيكل محوره الآسيان التي توقفت عن تقديم قيمة جوهرية. بما أن شركاء الولايات المتحدة مثل أستراليا والهند واليابان هم أعمدة البنية الرباعية، فإن الدول الصغيرة على طول نهر ميكونغ، من ناحية أخرى، قد تجد نفسها أكثر تفاعلًا مع الشبكات التي تقودها الصين، سواء عن طريق الاختيار أو الضغط.
مع أنّ استمرار وجود الآسيان وآلياتها في هذا السيناريو، يصبح من الصعب أكثر من أي وقت مضى التوصل إلى توافق في الآراء بشأن التحديات الإقليمية وسط خطوط الصدع المتفاقمة. ونتيجة لذلك، فإن مركزية الآسيان في الهيكل الإقليمي تضعف تدريجياً لدرجة أن المنظمة لم تعد لها أهميتها.
السيناريو الثاني: الترابط
السيناريو الثاني هو مستقبل تحتفظ فيه الآسيان بفائدتها وقيمتها للدول الإقليمية وتلتزم ناجحةً بمكانتها كمنصة مركزية في البنية متعددة الأطراف لجنوب شرق آسيا وذلك بالرغم من نمو أشكال جديدة من التعددية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. إذا نظرنا إلى الوراء في كيفية تولي الآسيان للاجتماعات ووضع جدول الأعمال لقمة شرق آسيا الافتتاحية وسط التنافس الصيني الياباني، يمكننا القول إن منافسة القُوَى الكبرى يمكن، في ظل ظروف معينة، تعود بالفائدة للآسيان.


في السياق الحالي، يستلزم هذا السيناريو استمرار العديد من دول المحيطين الهندي والهادئ، بما في ذلك الدول الأعضاء في رابطة أمم جنوب شرق آسيا نفسها، في اعتبار منصات رابطة أمم جنوب شرق آسيا واحدة من أكثر القنوات فعالية لتعزيز المصالح الوطنية في المنطقة. بافتراض أن الصين لا تزيد الضغط على القُوَى الإقليمية، فإن الدول التي كانت مترددة في الانضمام رسميًا إلى الترتيبات التي تقودها الرباعية – مثل كوريا الجنوبية وفيتنام – لن ترى زخمًا يُذكر للانحراف عن المشاركة مع الآسيان.
ستستمر في هذا السيناريو التحديات كالتنافس بين الصين والولايات المتحدة ونزاع بحر الصين الجنوبي والخلافات على نهر ميكونغ. ربما تبقى التوترات المحيطة بمثل هذه القضايا بين مدٍ وجزر، كما حدث في الماضي. المهم هو تصور دول المنطقة أن الآسيان وآلياتها ما تزال تؤدّي دورًا بناءً في تعزيز مصالحها الوطنية.
ومع ذلك، للوصول إلى هذه الصورة المتفائلة فإن تماسك الآسيان – أو في الأقل تصوره – هو شرط أساسي. ومن ثم فإن هذا السيناريو يقوم على أساس الحد من الاختلافات بين المؤسسين والدول الأعضاء الجدد في رابطة أمم جنوب شرق آسيا وزيادة مواءمة المصالح داخل نواة الآسيان. إن وجود قيادة قوية لرابطة أمم جنوب شرق آسيا، داخلياً وخارجياً، سيكون أمراً بالغ الأهمية.
على الرغم من البساطة الظاهرية لهذين السيناريوهين، سيكون من المفيد التفكير فيهما على أنهما النهايتان البعيدتان لنطاق يتنبأ بأهمية رابطة أمم جنوب شرق آسيا في المنطقة من الآن وحتى عام 2040. بين انعدام الترابط كلياً والمركزية الراسخة في البنية الإقليمية يمكن لرابطة أمم جنوب شرق آسيا أن تجد نفسها بقوة في نقاط مختلفة على كامل النطاق اعتماداً على كيفية ظهور هذه الاتجاهات. ومع ذلك، سواء أكانت الاتجاهات التي حددتها هذه المقالة مستمرة أو تتلاشى على المدى الطويل فستحتاج الآسيان إلى تعديل وتكييف عرض القيمة الخاص بها وفقًا لذلك.
المصدر: اضغط هنا
سارة تيو باحثة ومنسقة برنامج هندسة الأمن الإقليمي في مدرسة Rajaratnam للدراسات الدولية (RSIS)، جامعة نانيانغ التكنولوجية (NTU)، سنغافورة.
أضف تعليقًا