ترجمات_ دريل

توتير
ازداد عدد الدول العربية التي تسعى إلى إحياء العلاقات بالحكومة السورية بعد عقد من الصراع الأهلي والمحاولات الفاشلة للإطاحة بنظام الرئيس بشار الأسد. مع خروج دمشق ببطء من العزلة، تخاطر الأنظمة والجهات الفاعلة غير الديمقراطية الأخرى في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بإظهار نجاح الأسد دليلاً على أن القوة أفضل خيار لقمع ما يهدد سيطرتها، بل وأنها حرب، بانتقاء الحلفاء المناسبين، يمكن الفوز بها حتى لو كان الثمن دماءً ودماراً.
الحقيقة المؤسفة أن نموذج الحرب الأهلية السورية سيتحول بالتدريج إلى مثال تحتذيه دولة أو جهة فاعلة أخرى عند وقوع أي حالة تمرد. والتمرد حتمي في منطقة تعاني الظلم الاقتصادي والصراع الطائفي والأنظمة الاستبدادية والفساد المتجذّر والعجز في الحكم على مدى عقود.
ما الذي كان على المحك
من بين كل انتفاضات الربيع العربي التي اندلعت في عام 2011، بدت سوريا الأكثر استعدادًا لتغيير الطريقة التي تحكم المنطقة فيها نفسها. بخلاف البلدان الأخرى التي شهدت احتجاجاتٍ كبيرةٍ مناهضة للحكومة خلال ذلك الوقت (مثل مصر وتونس)، كانت سوريا أعتى دولة عربية من الناحية الأمنية التي تحكمها المخابرات (الشرطة السرية). كان يُنظر إلى دمشق على نطاق واسع على أنها “دليل على الانقلاب” بعد عقود من إعادة التنظيم الداخلي واختبارات الولاء التي ابتكرتها عشيرة/مجموعة الأسد الحاكمة. لم تهتم روسيا، المورد الرئيس لسلاح النظام، بحقوق الإنسان، ومثلها إيران حليف سوريا الإقليمي الرئيس. وهكذا بدت الحكومة السورية محصنة ضد الضغط الشعبي، ناهيك عن التمرد، لأنها يمكن أن تستخدم القوة بقدر ما تريد.
لو نجحت انتفاضة الربيع العربي في قلب الوضع السائد، لانهارت مصداقية الدولة الأمنية في سوريا ومعها الاستبداد الإقليمي عموماً. وبالنتيجة لو لم يقمع الأسد التمرد المسلح بأسلحته الكيميائية وبجنوده المتحمسين ظاهرياً وبدعم من روسيا وإيران ، فما هي الفرصة التي تملكها الحكومات الأقل تشددًا ومعها حلفاء مهتمين بحقوق الإنسان (مثل الولايات المتحدة فرنسا)؟
ولكن انتفاضة الربيع العربي في سوريا تحولت إلى سنوات من الصراع المسلح والحرب الأهلية. ومع دخول القوة الجوية الروسية والميليشيات المدعومة من إيران بدأ تغيير المد العسكري لصالح الأسد بعد عام 2015، وظهر درس جديد: قد يستمر المرء في الفوز بمثل هذه الحرب الأهلية الوحشية ويخسر السلام بالمقابل؛ يمكن حصاد النصر، وإن كان غالياً، من التعامل الوحشي مع الاضطرابات. الفاتورة الهائلة لإعادة الإعمار في سوريا لا تقل عن 500 مليار دولار (أكثر من ثمانية أضعاف إجمالي الناتج المحلي للبلاد قبل الحرب والتي بلغت 60 مليار دولار في عام 2010) ما يشير إلى أن النظام السوري سيحتاج إلى كميات هائلة من المساعدات لإعادة بناء الدولة الممزقة. لكن العقوبات الأمريكية والأوروبية، التي فرضها قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين لعام 2019، يبدو أنها ستعيق إعادة الإعمار إلى الأبد تاركة نظام الأسد يترأس مشهدًا أسود اللون، فيه يُحكم على المدن المتضررة بساعات قليلة من الكهرباء وعلى أنصاره بالسعي للحصول على الوقود والدواء.
ولكن يبدو أن هذه الفرضية موضع شك حالياً، فقد بدأت كل من الإمارات العربية المتحدة والأردن ومصر والبحرين تطبيع العلاقات مع سوريا بشكل نشط أو سلبي في الأسابيع الأخيرة، على الرغم من قانون العقوبات الأمريكي والمعني بقوة بحقوق الإنسان. أخذ الإماراتيون زمام المبادرة في هذه الحملة، عندما تعهدوا ببناء خطة للطاقة الشمسية في سوريا بعد وقت قصير من إرسال وزير خارجيتها إلى دمشق في 9 نوفمبر. كما أعاد الأردن فتح حدوده مع سوريا في سبتمبر، وفي ديسمبر أعادت البحرين تعيين سفيرها في دمشق بعد عقد من الانقطاع. في غضون ذلك، ضغطت مصر بقوة من أجل عودة سوريا للانضمام إلى جامعة الدول العربية بعد تعليقها عام 2011 من المنظمة الإقليمية.
كل هذه الدول حليفة مقربة للولايات المتحدة وهي حذرة من إثارة غضب واشنطن وعقوباتها. لكن يبدو أن هذه الدول رأت أن الولايات المتحدة لا تريد إحداث خلاف مع شركائها الإقليميين بشأن سوريا – وهي دولة ليس لواشنطن فيها مصلحة تذكر في تحسين الحكم العام وتركز بدلاً من ذلك في المقام الأول على التهديدات الأمنية في الشمال الشرقي.
وقد صمدت هذه الحسابات حتى الآن، حيث إن الولايات المتحدة لم تشر بعد إلى أي نية لفرض عقوبات رداً على تواصل الإمارات العربية المتحدة والأردن ومصر والبحرين مع دمشق. في الواقع، يبدو أنه حتى واشنطن تجد استثناءات من استراتيجيتها للعزل في سوريا، حيث تسعى الولايات المتحدة الآن إلى إعادة تشغيل خط الغاز العربي المُغلق منذ مدة طويلة الممتد من مدينة العريش المصرية إلى مدينة حمص السورية.
في حين قد يستغرق الأمر بعض الوقت قبل تخلي الولايات المتحدة علانية عن اعتراضاتها على عودة سوريا الكاملة إلى الاقتصاد العالمي والفضاء الدبلوماسي، فإن الطريق سالكة بما فيه الكفاية. قد تضعف العقوبات الأمريكية مستقبلاً بما يكفي للسماح بتدفق المساعدات واستثمارات إعادة الإعمار شيئاً فشيئاً – وقد تصبح هذه التدفقات، مع الوقت الكافي وعدم اهتمام الولايات المتحدة، طوفاناُ.
سابقة أم سوابق دامية
إذابة عزلة سوريا ليست المرة الأولى التي يُجزى عليها القوي في المنطقة. لكنها واحدة من أكثر الأمثلة انتشارًا ويضيف إلى اتجاه سيبقى فيه الحكم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بحد السيف. وبالنسبة للقادة في المنطقة، فإن نجاح الأسد في الاحتفاظ بالسلطة خلال العقد الماضي يضع أيضًا نموذجًا لكيفية النجاة حتى في أسوأ سيناريو لانتفاضة شعبية شاملة.
قد تجد كل من الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية ما يفيدها مستقبلاً في المثال السوري. في لبنان مثلاً امتنع حزب الله عن استخدام قواه الكبيرة لإعادة تشكيل السياسة لصالحه، خشية العودة إلى الحرب الأهلية. ولكن مع ظهور الصراع السوري ليس كتحذير ولكن كنموذج محتمل، قد يعتبر حزب الله استخدام القوة مقامرة أكثر جدوى لتأمين قوته المحلية وشرعيته وسط الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المستمرة في لبنان. ومن المرجح أن يتجلى ذلك في شكل مزيد من العنف العلني ضد المتظاهرين والنشطاء اللبنانيين وحتى المؤسسات الحكومية. وباستخدام قوة كتلك، قد يخطئ حزب الله في التقدير، أو يقتل الشخص الخطأ أو يمارس العنف علناً بطريقة ما، مما يعيد إشعال صراع طائفي مخيف.

في العراق، ستكون الميليشيات المدعومة من إيران أكثر جرأةً على الحفاظ على التكتيكات العنيفة التي استخدمتها مسبقاً لفض الاحتجاجات الموجهة ضدها، وربما تصعيدها، مشيرة إلى سوريا كتأكيد على نهجها. وخلال الأزمات الأمنية أو السياسية المستقبلية، قد تميل هذه الميليشيات أيضاً إلى اللجوء إلى التطهير العرقي الذي شوهد آخر مرة في العراق خلال ذروة الصراع الطائفي في 2006-2007، بعد رؤية النجاح الذي حققه الأسد في استخدام مثل هذه التكتيكات للحفاظ على مكانته في السلطة وتفوقه على ساحة المعركة في سوريا.
وإيران نفسها تواجه اضطرابات متكررة، غالباً من الأقلية العربية ولكن أحياناً من أطياف واسعة من سكان إيران أيضاً. شهدت البلاد بعض أكبر الاحتجاجات على مستوى البلاد في 2019-20. وعادة ما استخدمت إيران القوة لقمع هذه الانتفاضات. لكن مع أخذ المثال السوري في الاعتبار، قد تكون طهران على استعداد للجوء إلى تكتيكات الأرض المحروقة، ولا سيما ضد سكانها العرب، لتقمع بحزم التحديات التي تواجه نظام الحكم. إضافة إلى ذلك، ستثبت الحرب الأهلية في سوريا صحة السياسة الخارجية الإيرانية المتشددة، مما ينذر بمزيد من التدخلات العسكرية في الخارج لمصلحة حلفاء طهران الأيديولوجيين.
لكن حتى حلفاء الولايات المتحدة كمصر والمملكة العربية السعودية سيرون دروساً تستحق الأخذ بها من سوريا. فمن ناحية، تظل قيم الولايات المتحدة وسياساتها بعيدة المنال كعادتها، مع أنّ التعهدات المتكررة للحملات الانتخابية والقوانين المختلفة المصممة لتغيير ذلك. وطالما أنها ذات قيمة استراتيجية للولايات المتحدة، يمكن لمصر والمملكة العربية السعودية وحلفاء الولايات المتحدة الأمريكية الآخرين أن يطمئنوا إلى أن واشنطن ستتخذ إجراءات محدودة، وربما غير فعالة، ضدهم إذا انخرطوا في قمع واسع النطاق للمعارضة الشعبية. وقد يؤدي ذلك إلى نهاية حالة عدم اليقين التي أعقبت الحرب الباردة التي خلّفها تركيز الولايات المتحدة على التزام الحلفاء بمعاييرها لحقوق الإنسان، مما يمكن الدول من العودة إلى التكتيكات القمعية دون تعريض علاقاتها بواشنطن للخطر. وإذا فُرض عقوبات على حلفاء الولايات المتحدة بسبب هذا السلوك الداخلي، فسوف يشيرون أيضاً إلى سوريا كدليل على أنه إذا تمكنوا من انتظار الضربة الأولى، فإن تطبيق هذه العقوبات سيتلاشى في النهاية.
العودة إلى الأقوياء
ومع ذلك، وبغض النظر عما تفعله هذه الجهات، فمن المؤكد أن الاستبداد في الشرق الأوسط قد ظهر منتصرًا من الربيع العربي. تنذر التسوية البطيئة في سوريا بالعودة إلى أنماط الحكم القديمة واستمرار دورة الحرب من طريق ترك الأسباب الأساسية للصراع في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا دون معالجة.
المصدر: اضغط هنا
ريان بول محلل متخصص في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في، ستراتفور
أضف تعليقًا