فكرة استمرار شخصيتك “الحالية” بعد الموت لا تصمد أمام طريقتنا الحالية في فهم الذاكرة والماهية.
يؤخذ كثير من الناس بماهية الحياة بعد الموت. لقد بنيت كافة الديانات على فكرة الحياة بعد الموت أو الحياة الآخرة. فالمسيحية والإسلام تعدان أتباعهما بأماكن خاصة يصيرون إليها، بينما تنص البوذية على التحرر من عجلة الوجود لترك دورة الموت والولادة. والسؤال: هل أي من هذا ممكن فعلا؟
يشكك ستيفن باتشلور في ذلك. ففي كتابه “اعترافات بوذي ملحد” يشير الراهب السابق إلى أن بوذا تجنب مناقشة ثنائية الجسد والعقل التي تعتمد عليها فكرة الولادة الجديدة، كما رفض الحديث عن الماورائيات. ولكن الدين الذي نشأ بعد وفاته أقحم عنوة مشكلة الولادة الجديدة في لاهوته مع أنّ بوذا أصرّ على أنها ليست مسألة ذات معنى.
يستشهد باتشلور بالعديد من المفكرين البوذيين الذين يجعلون الولادة الجديدة أساساً للبوذية. فالفيلسوف الهندي في القرن السادس/السابع دارماكرتي كان مثنوياً وأصر على أن العقل غير مادي ولا يمكن لأي شيء كالجسد أن يؤدي إلى الإدراك. عندما أعرب باتشلور عن شكوكه، لأن دارماكورتي لم يذكر أبداً الدماغ لعدم امتلاكه تقنية الرنين المغناطيسي الوظيفي، كان لمرشده أمل بأن يدرك تلميذه الحقيقة من خلال التأمل فقط.
وهكذا فإن “إثبات” الولادة الجديدة يستند إلى تجربة ذاتية لكيان غير مادي في حالة وعي غير عادية. وإذا لم تخض تجربة كهذه بنفسك فكن واثقاً أن المتأملين تفوقوا عليك.
وهو نفس السبب الذي دفع بوذا إلى ترك مدرسين اثنين لليوغا؛ لم يثق بكلامهم بما أنه سيكتشف بنفسه. وعندما استنار وعرف أخيراً لم يكن لما عرفه علاقة بالآخرة أو الأوهام التي نعانيها خلال هذه الحياة. من هنا يضع باتشلور أصحاب الإيمان الأعمى كالصوفيين المسيحيين الذين “يعرفون” الله والأشخاص الذين يزعمون أن كائنات فضائية اختطفتهم، في نفس البوتقة. إذ لا توجد طريقة لاختبار ادعاءاتهم.
يواجه القصص الشعبي مشكلة كبيرة اليوم لأننا نستطيع قياس الوعي بتقنيات العصر. على الرغم من أننا ربما لم نكتشف آلية تعمل على تشغيل الوعي (يعتبره معظمنا ظاهرة طارئة) إلا أننا نعلم أنه يتوقف عن العمل عندما يموت الجسم. لا جسد ولا عقل – إذاً لا ثنوية.
هذه القضايا هي موضوع كتاب مايكل شيرمر الذي سينشره عام 2021 “الجنة على الأرض: البحث العلمي عن الآخرة والخلود واليوتوبيا”. كتب مؤسس مجلة Skeptic في عمود له مؤخراً يسرد فيه ثلاثة أسباب أن “الشخص” لن يستمر وجوده بعد الموت.
ذاكرتك لا يمكن استعادتها
يعتمد التناسخ/التقمص على فكرة أن “الشخص” مجموعة من الذكريات تبقى سليمة. لكن الذاكرة لا تعمل بهذه الطريقة. في كل مرة تتذكر فيها ذكرى تكون قد تغيرت عن التجربة الأصلية. كل ما حدث منذ ذلك الحين قد أثر على إعادة سرد تلك اللحظة. نحن لسنا كائنات راكدة، بل نتعامل بسلاسة مع العمليات التي نتذكرها باستمرار للماضي بشكل مختلف حسب الموقف. قد تشعر بأنك نفس الشخص الذي استيقظ بالأمس ولكن من منظور عصبي فهو ليس أنت تماماً. من المحتمل أن تكون استمرارية الماهية سمة بقاء تمكننا من العمل داخل المجتمعات، ولكن كما عرف بوذا، فالماهية مجرد وهم. إنها لعبة معقدة للغاية تستمر لعقود (أو حتى قرن)، لكنها مع ذلك وهم.
مبدأ الثنوية لا ينجح
لذلك لا توجد نسخة طبق الأصل من “شخصيتك” تعيش بعد الموت. قد يكون الأخ أو الأخت التوأم نسخة منك لكنه ليس أنت. لذلك فإن عمل نسخة من الشبكة العصبية للدماغ، حسب ما يقول شريمر، هي “نموذج لوصلاتها العصبية” ووضعها في جسم آخر يتفادى الاصطدام بحقائق علم الأحياء. ويستنتج شيرمر “لا يمكن للازدواجية ولا للقيامة أن تجسدك في مستوى آخر من الوجود.”
“ماهيتك” أكثر من مجرد ذكرياتك
يلاحظ شيرمر أن بعض الباحثين يتساءلون بأن لكل منا ذاكرة ذاتية ووجهة نظر ذاتية. إذا قمت بتحميل ذكرياتك (MEMself) على جهاز كمبيوتر فستعود وجهة نظرك (POVself) كما هي. لكن الذاكرة لا تعتمد فقط على التجربة نفسها بل على بيئتك الحالية أيضاً. فنحن نغير وجهة نظرنا باستمرار بالاعتماد على الناس من حولنا. فمن حولنا ومكاننا يحدد كيف نتذكر. إذاً فكرة أن وجهة نظرك بِرُمَّتها ستبقى سليمة هي فكرة مستحيلة. يقول شيرمر: “الموت هو انقطاع دائم في الاستمرارية”.

تعتمد الولادة الجديدة عند البوذي على الكارما أي أنك “تحصد ما زرعت”. ولكن يُدحض هذا عندما يعاني الطيبون بلا داع ويحقق المجرمون مناصب مربحة في الحكومة والشركات. فيقال حينها “لابد أنهم قدموا أعمالًا صالحة في حياة سابقة” أو “سيعانون في المستقبل”. نعم لقد وصل الناس إلى هذه الدرجة من السخف محاولةً لتفسير معاناة شخص ما أو نجاحه بسبب هذه المثالية الخاطئة للكارما.
ولكن لنأخذ مثالاً لطيفاً. غالباً ما ألاحظ في لوس أنجلوس أن الناس يتوقفون مسافة سيارتين أو ثلاث خلف السيارات الأخرى عند الإشارة الحمراء لأنهم منغمسون بما في هواتفهم. ولا يدركون غالباً متى تتغير الإشارة لأنهم لا يهتمون بالضوء أو رفاه غيرهم
اقرأ أكثر: عن التعاطف خيره وشره… الوجه المظلم له
الكارما لن “تؤدبهم”، لكن أفعالهم لها عواقب وهو مغزى كلمة كارما. أولاً، تُترك السيارات العالقة في الخلف لتنتظر حتى تتغير الإشارة الثانية لأن تلك السيارة الأولى بقيت على بعد بضعة أمتار. ضع في اعتبارك الوقت الإضافي الذي يستغرقه المنشغل بهاتفه لينتبه إلى محيطه، ولديك تعريف عملي مثالي للكارما: أفعالك لها عواقب. يؤثر عدم قدرتك على الاهتمام بمحيطك بشكل سلبي على الآخرين في هذه الحالة. ربما تكون قد أخرت عن موعد مهم أو أنك ببساطة أزعجت غيرك ممن يقفون خلفك لأنه كان عليك أن تعرف مدى روعة صورك الذاتية على إنستغرام.
إذاً أفعالك وشخصيتك هي “مايبقى”. أما ما ينتقل من حياة إلى أخرى فهي الأفكار والتحيزات والأمراض والمعتقد الديني والمال. فقط لأنك لم تتذكر لاحقاً لا يعني أنك لم تؤثر على الآخرين؛ فقط لأن الجميع يتذكر اسمك لا يعني أنك استفدت من هذا الكوكب. أفعالك دائماً لها عواقب الكثير منها لن تدركه أبداً. هذه هي الكارما. إنه ليس شيئاً سحرياً. ما عليك سوى ترك هاتفك جانباً والتفت حولك لترها في كل مكان.
اقرأ أكثر: تحدي الشطرنج الذي دفع الذكاء الصُّنعي إلى دائرة الضوء
تقول ليزا فيلدمان باريت في كتابها “كيف تصنع العواطف” إن الأمر يتطلب الكثير من الأدمغة لتكوين عقل. وهذا صحيح في الأجناس الاجتماعية. أفرغ أجزاء من الذاكرة لزوجتي التي تتولى مهام معينة في زواجنا، تماماً كما تفرغ لي. لهذا السبب عندما يموت شريك قضيت معه مدة طويلة يميل النصف الآخر إلى الشعور بأن قطعة منه قد هلكت. قد يبدو هذا محزناً لكن من الرائع امتلاك ارتباط قوي كهذا مع شخص آخر. بقايا حياتك تلتصق بالآخرين ووعيهم.
ولهذا السبب فإن الفكرة الميتافيزيقية عن التناسخ غير ضرورية بل إنها تشتت الانتباه عما هو مهم في الحياة. يستنتج شيرمر أن البعض يجد أن شكوكه محبطة لكنه يعتقد العكس.
إن الوعي بأننا فانون سمو بحد ذاته لأنه يعني أن كل لحظة وكل يوم وكل علاقة هي مهمة. والهدف هو الانخراط بعمق مع العالم ومع الكائنات الحية الأخرى.
المصدر: اضغط هنا
أضف تعليقًا