الأرشيف

السلايد الرئيسي العاقل كوزموس

جدري القرود ومخاطر النزعة الوطنية للقاح

جدري القرود ومخاطر النزعة الوطنية للقاح
صورة تعبيرية. عبر business-standard. متداول

على الدول الغنية ومنظمة الصحة العالمية الاستفادة من دروس COVID-19

لأول مرة منذ ظهور جائحة COVID-19، قد تكون منظمة الصحة العالمية على وشك إعلان تهديد مرض مختلف -جدري القردة – ليكون حالة طوارئ صحية عامة تثير قلقاً دولياً. يوجد الآن أكثر من 3500 حالة مؤكدة في أحدث وباء جدري القرود، والذي انتشر باطراد في 44 دولة خلال الأسابيع العشرة الماضية. بالأمس، اجتمعت لجنة الطوارئ التابعة لمنظمة الصحة العالمية في جنيف لمناقشة الوباء، ويتوقع بعض الخبراء أنها ستنصح المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس بإصدار إعلان الطوارئ.

قد يشكل فيروس جدري القرود وفيروس SARS-CoV-2 المسبب لـ COVID-19، حالات طوارئ دولية للصحة العامة، لكنهما عاملان ممرضان مختلفان تماماً. ففيروس جدري القرود أقدم وينتمي إلى عائلة الفيروسات الأرثوبوكس التي تشمل أيضًا الجدري. ينتشر بشكل أقل كفاءة من SARS-CoV-2، ويقتل عددًا أقل من الناس (لم تسجل حتى الآن حالة وفاة خارج البلدان الموبوءة في إفريقيا)، وخطره الأكبر على الأطفال الصغار والحوامل والأشخاص الذين يعانون من كبت المناعة. ينتشر فيروس جدري القرود في الغالب من خلال الاتصال الحميم، فقد جاء التفشي الحالي بمعظمه بين الرجال الذين يمارسون الجنس مع الرجال ولكنه الآن آخذ في التوسع خارج هذه الدائرة.

على عكس وقت ظهور فيروس كورونا الجديد قد يكون الاختلاف الأكبر بين الممرضين هو وجود أدوات سابقة لمكافحة جدري القرود. والاختبار التشخيصي لتفاعل البوليميراز المتسلسل (PCR) لجدري القرود أيضاً موجود، على الرغم من إبطاء المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها كانت مرة أخرى في توسيع نطاق الوصول إليه، كما حدث مع اختبار PCR لـ COVID-19. وعلى الرغم من أن مرضى جدري القرود يحتاجون عموماً إلى رعاية داعمة فقط، إلا أن في مخزونات الولايات المتحدة تحتوي على علاج للجدري قد يعمل ضد جدري القرود لدى المرضى المصابين بمرض أخطر. كما يوجد لقاحان ضد الجدري يمكن استخدامهما ضد جدري القرود.

مولت حكومة الولايات المتحدة – من خلال هيئة البحث والتطوير الطبي الحيوي المتقدم (BARDA) – تطوير MVA (المعروف باسم Jynneos في الولايات المتحدة)، وهو لقاح من جرعتين طُور في الأصل للجدري ولكنه فعال ضد جدري القردة – وهو اللقاح الوحيد الذي أجازته إدارة الغذاء والدواء الأمريكية خصيصاً لهذا الاستخدام. تصنع اللقاح شركة بافاريان نورديك مقرها الدنمارك؛ ولكن الإمدادات محدودة جداً واللقاح مكلف. اللقاح الآخر، ACAM2000، لديه مخاطر أعلى في خلق تطورات سلبية أكثر خطورة وغير مناسب للتحصين الشامل.

لا توصي منظمة الصحة العالمية حالياً بالتطعيم الشامل ضد جدري القرود، لكنها تدعو بدلاً من ذلك إلى استخدام MVA لتلقيح المخالطين القريبين لمرضى جدري القرود والعاملين الصحيين المعرضين لخطر التعرض. والسؤال المطروح هو ما إذا كانت هذه الاستراتيجية ستساعد في إبطاء انتشار الجائحة؛ فالوقت هو الأساس هنا إذ لم يثبت بعد أن MVA فعال في جرعة واحدة، ومن المفترض إعطاء الجرعتين بفاصل أربعة أسابيع. إن إجبار المخالطين المقربين على انتظار جرعة ثانية يتطلب تغييراً سلوكياً أوسع لمنع انتشار العدوى.

من جهة أخرى، حتى هذا النهج المحدود الذي أوصت به منظمة الصحة العالمية سيظل يتطلب إمدادات لقاح. وهذا يثير السؤال الرئيسي حول ما إذا كان وباء جدري القرود سيكون مختلفاً عن COVID-19 بطريقة أخيرة: هل ستذهب الجرعات إلى حيث يمكنها أن تحقق أقصى فائدة من خلال تعطيل انتقال العدوى ومنع الوفيات ووقف النتائج الوخيمة الأخرى؟ أو في إعادة عرض لما حدث خلال جائحة COVID-19 هل ستشتري الدول الغنية وتخزن الإمدادات المتاحة مقدماً؟

مع تقدم جائحة COVID-19، أعلن العديد من قادة العالم عن أسفهم على الظلم الشديد الحاصل في توزيع اللقاحات نتيجة شراء بعض البلدان الإمدادات المبكرة وفشلت في دعم التوزيع الدولي بشكل كافٍ. يعد جدري القرود اختباراً فورياً لمعرفة ما إذا كانت هذه البلدان قد تعلمت دروس COVID-19 – خاصةً وأن “النزعة الوطنية للقاح” تؤذي الجميع في النهاية وتطيل فقط حالات الطوارئ الصحية العامة الدولية. وحتى الآن، كان تقرير الأداء أقل من مقبول.

لمن يجب إعطاء اللقاحات؟

تُعتبر بافاريان نورديك شركة تصنيع لقاحات صغيرة نسبياً، والإمدادات المحدودة من لقاح MVA تقل تدريجياً. بعد خمسة أيام من بدء تفشي جدري القرود ، اشترت الولايات المتحدة 500000 جرعة إضافية لتضمها إلى 1.4 مليون جرعة موجودة مسبقاً في مخزونها. وفي 14 يونيو وقع الاتحاد الأوروبي صفقة مع الشركة لتزويد 109،090 جرعة من MVA، على الرغم من أن وكالة الأدوية الأوروبية لم تأذن بعد باستخدامه ضد جدري القردة. كما اشترت ألمانيا 40000 جرعة وحجزت 200000 جرعة إضافية. تستخدم فرنسا لقاح MVA حالياً، وأعلنت الدنمارك وإسبانيا والمملكة المتحدة عن عمليات شراء اللقاح.

لا يزال عدد جرعات MVA المتبقية للشراء غير واضح، ولكن هناك إشارات على أن الإمدادات الحالية قد تنفد. كندا التي وقعت مؤخراً عقداً بقيمة 56 مليون دولار مع شركة بافاريا نورديك للقاحات MVA، سيتعين عليها الانتظار حتى عام 2023 حتى تصل أول شحنات لها.

وقد حثت منظمة الصحة العالمية الدول الأعضاء فيها على التعاون لضمان توفير إمدادات لقاح جدري القردة “بشكل كافٍ وعادل”، بما في ذلك “البلدان التي لديها إمدادات لقاح محدودة أو معدومة”. تقول المنظمة إنها ستنشئ آليات تنسيق لإتاحة اللقاحات عند الحاجة كما حاولت أن تفعل مع COVID-19.

تعتمد زيادة حجم إمكانات إمدادات اللقاح الشحيحة ضد جدري القرود في هذه الجائحة على الجرعات التي تذهب إلى حيث يمكن أن تحقق أقصى فائدة. لكن لا يوجد حالياً إجماع حول مكان ذلك.

خريطة توضيحية لمناطق توزع إصابات فيروس جدري القرود. منظمة الصحة العالمية

إحدى الاستراتيجيات هي استخدام اللقاحات الشحيحة للسيطرة على انتشار وباء جدري القرود خارج الأماكن التي كان الفيروس فيها مستوطناً أصلياً. يزيد الانتشار العالمي غير المضبوط من احتمالية اكتساب الفيروس لطفرات جديدة تجعله أكثر قابلية للانتقال أو حتى مميتاً، وأن الفيروس ينتشر في “التجمعات” الحيوانية، مما يصعب القضاء أو السيطرة عليه في مناطق جديدة.

توجد أربعة أخماس حالات جدري القرود المؤكدة في هذا الوباء في أوروبا والمملكة المتحدة، ولكن توجد دلائل على أن عدد حالات جدري القرود الجديدة في أوروبا قد يكون ثابتاً. ليس من الواضح ما إذا كان التطعيم المحدود الذي أجرته فرنسا والمملكة المتحدة قد ساهم في إبطاء الوباء. أما الولايات المتحد فالوضع فيها يلفه الغموض. ففيها حالياً 173 حالة مؤكدة من جدري القرود، لكن الاختبارات الأمريكية أجريت على نطاق محدود حتى الآن، والعديد من الحالات لا ترابط بينها مما يشير إلى أن حالات أخرى مجهولة المصدر كانت مصدر تلك الإصابات.

البعض الآخر غير مرتاح أبداً لاستراتيجية تكرس اللقاحات الشحيحة والاهتمام العالمي بجدري القرود لمجرد وصول الفيروس إلى الدول الغنية. لطالما كان جدري القرود متوطناً في إفريقيا. بسبب الاختبارات المحدودة لا أحد يعرف عدد الحالات في البلدان الموبوءة أو ما إذا كان التغيير في الفيروس المنتشر في تلك البلدان قد ساهم في انتشاره العالمي. في عام 2022، تسبب مرض جدري القرود في وفاة أشخاص فقط في غرب إفريقيا ووسطها، حيث توفي أكثر من 70 شخصاً بسببه هذا العام. وينادي بعض الخبراء بالالتزام الأخلاقي لضمان وصول جرعات MVA إلى إفريقيا حيث أجريت التجارب السريرية في المرحلة الأخيرة على MVA في بلدان في المنطقة حيث يتوطن جدري القردة.

قال الدكتور أحمد أوجويل، القائم بأعمال مدير المراكز الأفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها، إن “المكان المناسب لبدء أي لقاح يجب أن يكون في أفريقيا وليس في أي مكان آخر”. وفقا لتقارير صحفية لم يلتزم المسؤولون الأمريكيون حتى الآن؛ في وقت سابق من هذا الشهر، قال مسؤول كبير في إدارة بايدن لوكالة أسوشيتيد برس إن البيت الأبيض “يستكشف جميع الخيارات”. في غضون ذلك، قد تهدد التداعيات المحتملة على لقاحات جدري القرود الجهود الوليدة لإعادة بناء التعاون العالمي حول التأهب للوباء في المستقبل والاستجابة له بعد الظلم الصارخ لفيروس كوفيد -19.

إلغاء النزعة الوطنية للقاحات

استجابةً لجدري القرود، على القادة والخبراء إدراك أن هذا التفشي الجديد يحدث في الظل الجيوسياسي لـ COVID-19. بعد مرور عامين ونصف على انتشار الوباء، لم يتلق 82 في المائة من الأشخاص في البلدان منخفضة الدخل حتى جرعة واحدة من COVID-19، بينما يتمتع سكان البلدان الغنية بإمكانية الوصول إلى الجرعتين الثالثة والرابعة. عموماً، كانت الوعود بالتبرعات باللقاحات بطيئة التنفيذ حسب الاستراتيجيات الوطنية وليس حسب الاحتياجات الصحية العالمية. سيكون للإحباطات والوعود التي لم يوفى بها والظلم في استجابة COVID-19 دور في كيفية تعاون البلدان والاستجابة لجدري القرود.

في الوقت نفسه، يعد جدري القرود مرضًا مختلفًا عن COVID-19، ويجب أن يعكس تخصيص اللقاح احتياجات الصحة العامة لهذا الوباء بدلاً من محاولة التعويض عن أوجه القصور في الاستجابة الأخيرة للوباء. لمعالجة أولويات الصحة العامة للأزمة الحالية مع مراعاة الآثار التي تركتها الأزمة الأخيرة، يحتاج العالم إلى استراتيجية عالمية واضحة المعالم توضح أن البلدان الأفريقية، خاصة تلك التي يتوطن فيها المرض، ستحظى بنفس الأولوية التي تحظى بها الدول الغنية، ومصممة خصيصاً لمزايا جائحة جدري القردة والسكان المتضررين والتدخلات الطبية المتاحة.

قد يكون MVA أداة حاسمة في هذه المعركة. ومن المحتمل أن يكون اللقاح مفيداً للعاملين الصحيين في جميع البلدان المتضررة بما فيها الموجودة في إفريقيا حيث يتوطن جدري القردة، من خلال توفير حماية أكبر عند علاج المرضى المؤكدين أو المشتبه بهم. وينبغي للبلدان التي لديها جرعات أن تتبرع بجزء منها لجهود التلقيح العالمية لمنظمة الصحة العالمية التي تركز على العاملين الصحيين.

لم يتضح بعد ما إذا كان MVA فعالاً لاستراتيجية احتواء أكبر. وتحتاج منظمة الصحة العالمية وحكومات البلدان المتضررة بشكل عاجل إلى إجراء المزيد من الأبحاث لتحديد ما إذا كانت جرعة واحدة من MVA كافية لوقف انتشار المرض من المرضى المصابين إلى مخاطيهم المقربين. إذا كان الأمر كذلك، فمن المرجح أن تكون اللقاحات مفيدة للغاية في البلدان التي توجد فيها مراقبة كافية لتحديد الحالات ومخالطيها مبكراً وحيث توجد فرصة لمنع الفيروس من الانتشار والتوطن. وعلى المدى القريب، قد يعني ذلك استخدام المزيد من الجرعات في أوروبا وأمريكا الشمالية حيث يمكن السيطرة على تفشي المرض وفي البلدان التي لديها القدرة على تتبع المخالطين.

لكن استراتيجية كهذه لا يمكن أن تنجح إلا إذا قامت منظمة الصحة العالمية والولايات المتحدة والجهات المانحة الصحية العالمية الأخرى باستثمارات متساوية في استراتيجية قوية للاختبار والعلاج في البيئات التي تعيق فيها المراقبة المحدودة تتبع المخالطين، وتزيد أنظمة الرعاية الصحية الأضعف من خطر النتائج السيئة. يجب على ممولي الأبحاث مثل BARDA الاستثمار في تحسين العلاجات بسرعة – وأن يضعوا في اعتبارهم الحاجة إلى تطوير علاجات جديدة مضادة للفيروسات (أو مجموعات علاجية) لمنع ظهور سلالات مقاومة من الفيروس.

اقرأ أكثر: في ثلاثة أسباب.. لماذا لن تعود فيها للحياة مجددًا

وينبغي على البلدان الغنية، ولا سيما الولايات المتحدة، أن تتجنب إعادة خلق نزعة التطعيم الوطنية التي أنتجت عدم المساواة وشابت الاستجابة العالمية لـ COVID-19. يؤدي الفشل في القيام بذلك إلى تفاقم الآثار الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والصحية لهذا الوباء الأخير ويهدد بتقويض جهود الولايات المتحدة لحشد العالم حول القيادة الأمريكية في مجال الصحة العالمية.

قد يحدث تفشي جدري القرود في ظل COVID-19، لكن مسار الاستجابة يجب أن يخرج من ظل كوفيد-19. من خلال صياغة استراتيجية واضحة للصحة العامة وقائمة على الاحتياجات والنهوض بها، يمكن للبلدان تجنب جولة ثانية من إضفاء النزعة الوطنية على اللقاحات والتأكد من أن الجرعات المحدودة تذهب إلى حيث يمكنها تحقيق أقصى فائدة.

المصدر: اضغط هنا

وائل رئيف سليمان

محرر صحفي، مترجم ومدير محتوى. حاصل على إجازة في الإعلام من كلية الإعلام والصحافة في جامعة دمشق 2005/2006. عمل محررا وكاتبا في الشؤون الدولية ومدير تحرير ومحتوى في وسائل إعلام سورية وعربية.

أضف تعليقًا

اضغط لإضافة التعليق