الرهبانية نتاج سوري خالص. جُبل من تربتها وعصرته فلسفة رهبانها وقديسيها وتعتق في دفء ظل حجارتها فجاء خمرة قوية شعشاعة مضيئة شربتها أوروبا حتى الثمالة؛ فبان في حركات رهبانها وكلمات ترانيمهم وألحانهم وحتى في لباسهم وحجارة كنائسهم.
دايانا دارك الخبيرة في ثقافة الشرق الأوسط والمتخصصة في الثقافة السورية تلفت أنظار العالم إلى تلك الجذوة الفكرية التي نسيها العالم، وتحذر من خطر الحرب الأهلية على تلك الثقافة.
تحكي لنا دارك قصة ولادة الرهبنة والتي بدأت بعد انتشار المسيحية واعتمادها الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية. كانت سوريا بروحانيتها العميقة أكبر مركز إشعاع ديني. تهافت إليها الناس علماء وحجاجاً بشوق كبير إلى تلك الرحانية ومنهم سيدة قيل إنها سليلة عائلة الإمبراطور الروماني تيودوروس العظيم، اسمها إيجيرا جاءت من إسبانيا في أواخر القرن الرابع الميلادي إلى فلسطين فمصر فسوريا. رحلة سكبتها في مذكراتها لتلقيها إلى أخواتها في الوطن، ولتنشر فيما بعد تحت اسم “رحلة حج إيثيرا”. تقول الحاجة فيها “أردت، بمشيئة الرب، الذهاب إلى بلاد الرافدين في سوريا لرؤية الرهبان الكثيرين، وقيل إنهم يملكون قداسة لا تصفها الكلمات”.
تقول دارك إن الرهبنة المصرية هي التي تحظى بالاهتمام اليوم، وخاصة آباء الصحراء ومنهم القديس أنطونيوس من القرن الثالث الميلادي. وفي نفس الوقت أُهملت الرهبنة السورية الأولى وراح تأثيرها على أوروبا طي النسيان، كما نُسيت الجاليات السورية في الغرب إبان القرون الأولى لانتشار المسيحية.
تشدد دارك على الدراسات القائمة حالياً لتصحيح هذا الخلل وتقول إن المهمة صعبة نوعاً ما. وتركز على رحلات الحج التي قام بها الأوربيون، ومنهم إيجيرا، وأيضاً رحلات الرهبان السوريين الذين حطوا رحالهم في أوروبا حاملين معهم مخطوطاتهم وتحفهم وأساليب حياتهم. لقد تجاوز أثرهم الفكر والعقيدة وصولاً إلى العمارة. فكل الكنائس والأديرة الأوروبية وطقوسها تحمل نفحة من المسيحية السورية. لذلك، ترى دارك، ضرورة إيلاء هذا الدين الثقافي التقدير والعرفان المستحق، خصوصاً في ظل شبح الحرب المستمرة في سوريا التي دمرت الكثير من تراثه الثمين ولا يزال الخطر قائماً.
في هذا المقال تقدم دارك سرداً تاريخياً موجزاً ولكنه مكثف لبداية الدير بمفهومه الحالي وتبدأ بذكر أروع كنز سوري مسيحي وهو المدن الميتة الواقعة غرب حلب الذي يضم أكثر من 2000 كنيسة من القرن الرابع والخامس والسادس في 820 مستوطنة. وتتأسف على مصير تلك الكنائس كونها تقع بمعظمها داخل ريف محافظة إدلب النائي حيث ينتظر حوالي 3 ملايين معارض لنظام الأسد الحاكم مصيرهم.
ترى دارك عظمة هذه الكنائس كونها تعكس الرخاء الاقتصادي لتلك المستوطنات في ذلك الوقت. فقد تاجروا بزيت الزيتون والنبيذ، في حين كان التدهور الاقتصادي سمة لإيطاليا وإسبانيا وفرنسا وشمال إفريقيا، بسبب الغزوات «البربرية» التي نخرت الإمبراطورية الرومانية الغربية. كانت سوريا منارة للتقوى والحضارة المسيحية الأولى وقِبلة الحجاج والعلماء والتجار. ولا أدل على أهمية ذلك الكنز من أن القديس جيروم نفسه، أبو الكتاب المقدس ومجمع العهد الجديد، أوقد فتيل لاهوته من زيتها فقد أمضى عامين ناسكًا في صحراء خلقيس بالقرب من حلب، جذبته روعة زهد الرهبان السوريين.
كتب جيروم في أثناء وجوده هناك سلسلة من أهم الرسائل عام 375، تداولها أصدقاؤه من النخبة الأرستقراطية في روما. فصارت سوريا وجهة للأتقياء والمتعلمين بلا منازع. ولا نتعجب إذاً من إرسال رهبان أيرلندا إلى سوريا (هكذا أخبرنا القديس آدامنان، كاتب سيرة القديس كولومبا [521-97])، ليتعلموا طريقة عيش القديسين الأوائل وكيف بنوا الأديرة الأولى.
مبدأ الرهبنة
تقول دارك إنه في عصر الاضطهاد الكبير، اندفع الرهبان المؤمنون لنيل شرف الشهادة في محبة المسيح لإثبات إيمانهم. ولكن بعد زوال الاضطهاد وتبني روما للمسيحية انتقل من بقي منهم إلى حياة التنسك القاسية لنفس السبب. فتسابقوا في الحكم على أنفسهم بالموت الروحي بالعيش في أبراج عالية أو أعمدة والاقتصار على ما يسد الرمق فقط والاقتراب من الله بتواصلهم المباشر مع الطبيعة الأم. فانتشرت قصصهم ومآثرهم التي تصل إلى حد المعجزات. وحتى الآن اكتشف علماء الآثار في سوريا أكثر من 100 من هذه الأعمدة.
سمعان العامودي الذي أمضى 37 عاماً متنسكاً على أحد تلك الأعمدة هو الأب والمؤسس لحياة الرهبنة. وقد ذكره معاصره الأسقف ثيودوريت القورشي ووصفه “أعجوبة العالم” طبقت شهرته الإمبراطورية الرومانية. آخرون غيره ساحوا في البلاد كما لو أن بهم مساً من الشيطان وعرفوا “بالمجاذيب” وكان أشهرهم القديس سمعان السالوي (سمعان الأحمق) اشتهروا بزهدهم وتقشفهم سجل حياتهم معاصرهم ليونتيوس أسقف نيابوليس في قبرص.
انتصف القرن الرابع الميلادي لينمو معه عدد الرهبان عندما قبِل بعض النساك السوريين المشهورين بقداستهم تلميذًا أو أكثر كرفاق يشاركوهم الزهد. كان هذا نواة لما صار يُعرف باسم الدير، مع كنيسة صغيرة وغرفة اجتماعات مستطيلة أو قاعة طعام ومبنى مكون من طابقين للأنشطة المجتمعية الأخرى. في الجوار وُجدت قلايات للرهبان. في البداية لم تكن في مهاجع ولكن في أكواخ منفصلة بسيطة مصنوعة من الأنقاض والطين. وبعد أن يُتم المبتدئ سنوات ثلاث يُطلب منه بناء كوخه بنفسه.
الكنيسة هي قلب التجمع ورمز الحضور الإلهي لذلك كانت أول ما يقام وتبنى من أفضل المواد وبأروع تصميم. ولجميع الأديرة مقبرة جماعية، تُعرف باسم التذكارات، غالبًا ما تُحفر في واجهة من الصخر الجيري القريب أو تحت الكنيسة نفسها، والتي كانت أصل القبو. وضعت النوافذ ذات الصليب في أزواج بدقة للسماح بدخول أشعة الشمس في ساعة معينة، مما يستحضر شخصية المسيح، «النور الحقيقي، الذي ينير كل إنسان» (يوحنا 1:9). وكان لكل دير خزان مياه خاص به ليستقل لرهبان عن غيرهم.
أما الزينة والزخارف فكانت في حدها الأدنى، بحيث كان للأديرة المبكرة تصاميم معمارية قاسية تعكس الطابع العملي التنسكي للرهبان. نُحت صليب بسيط على عتبات الأبواب بعد أن حكم الإمبراطور البيزنطي جستنيان بضرورة وضع علامة الصليب على باب الواجهة الرئيسي لجميع الأديرة. وقُطع الحجر الجيري المحلي بتربيع عالي الدقة، ليتناغم مع وعورة الطبيعة المحيطة، إذ لم تكن بين المناطق السكنية.
بحلول منتصف القرن الخامس، انتشرت سمعة أولئك النساك، فبدأ السوريون بالانتقال للعيش بالقرب منهم. ربما لأسباب دينية، وأمل الاستفادة من القوى الخارقة المرتبطة بالمواقع، أو اقتصادية لأن النشاط التجاري يتبع حتما نمو المستوطنات. كما كان للقديسين الأوائل معرفة في الطب وشفاء الأمراض فكانوا «حماة وأوصياء المدن».
استمرت حياة القديسين الأوائل حتى بعد وفاتهم. فكان الخيال الشعبي ينفخ فيهم الروح في كل مرة يلمس شخص من العامة أثراً من ذخائرهم طلباً للبركة وهي عادة منتشرة بين المسيحيين والمسلمين على حد سواء. هذا التبجيل مستمر حتى اليوم في الأضرحة في جميع أنحاء سوريا، مثل دير صيدنايا، السيدة العذراء، حيث أيقونة العذراء التي تمنح البركة. في القرن الخامس كانت الظروف الصحية في غاية السوء نتج عنها وفاة الكثير من الأطفال قبل بلوغهم الخامسة، فكان الإيمان بهذه البركة أقوى بكثير.
انتشرت عبادة ذخائر القديسين في جميع أنحاء سوريا منذ النصف الثاني للقرن الخامس، وكانت قوية لدرجة تنافس رجال الدين في المدن الكبيرة مثل أنطاكية والرها وأفاميا للحصول عليها. والسبب ديني أولاً اقتصادي ثانياً لقدرتها على جذب الحجاج لزيارة المدن التي تحتويها مما يحقق الرخاء والازدهار. على سبيل المثال، أصبح دير شارتر (في فرنسا) في القرن التاسع مركزًا رئيسيًا للحج فقط بمجرد أن حصل الأسقف على «رداء الولادة للعذراء» وجلب معه الكثير من الثروة والازدهار للكنيسة والتجار المحليين.
إضافة إلى ذلك، كانت سوريا مسرحاً للمعارك الأولى حول الوصاية على جثامين القديسين الأصلية. عند وفاة القديس سمعان العامودي عام 459، اجتمعت منطقة جبل سمعان الجبلية بأكملها لتأمين رفاته، لكن الأسقف القوي في أنطاكية أرسل 600 جندي لأخذ الجثمان ونقله منتصرًا على عربة إلى مدينته، ليودعه في كنيسة قسنطينة العظيمة. طلب الإمبراطور البيزنطي ليو الأول نقل ذخائر القديس إلى القسطنطينية، لكن أهل انطاكيا رفضوا الطلب الإمبراطوري متمسكين بالذخائر.
سرعان ما أصبحت كنيسة القديس سمعان، التي بنيت عام 490 حول عمود سمعان موقع الحج الرئيسي للعالم المسيحي. توافد الحجاج من جميع أنحاء أوروبا للزيارة وللإقامة فيها ما ساهم في نمو الاقتصاد المحلي.
تناثرت البيوت حول الكنيسة في بلدة دير سمعان مع توسع المجتمع الرهباني. كما حفرت أقدام الحجاج درباً صار طريقاً مقدسةً يتعمدون جماعياً في نهايته قبل أن يسمح لهم الرهبان بدخول الحرم المقدس وهو تجمع لأربع كنائس تحيط بالعمود. ذلك العمود، قام الحجاج بتقطيعه للحصول على البركة حتى صار مع الزمن قرمة حجر لا شكل لها.
حتى هذه الصخرة البريئة حولتها للأسف الضربات الروسية إلى فتات عام 2016.
في القرن السادس، وصلت الحياة الرهبانية السورية إلى عصرها الذهبي. فالمستوطنة الجيدة هي التي يوجد دير قربها. وتراوحت الاديرة من صغيرة جداً وصل عددها إلى 63 ديرًا كما في جبل باريشا، ضم كل منها 7 إلى 15 راهبًا. والأخرى كبيرة مثل التي قرب مدينة حماة ضم اثنان منها أكثر من 400 «مكافح روحاني». أما أديرة الحج فكانت ضخمة. يخبرنا المؤرخ العربي ابن بتلان من القرن الحادي عشر أن المباني الملحقة لدير القديس سمعان الشاب على بعد 16 أميال جنوب أنطاكية احتلت مساحة تصل إلى نصف بغداد. في دراسته الضخمة «الفن المسيحي لسوريا البيزنطية» (1995)، يقدر الباحث الإسباني إغناسيو بينا أن الرهبان يمثلون ما بين 4٪ و 6٪ من سكان المدن الميتة، وهي نسبة عالية مما يدل على أهميتهم في المجتمع.
كرس الرهبان السوريون معظم يومهم للصلاة ولكن أيضًا للعمل، نموذج اعتمده لاحقًا البرنامج البندكتي بشعاره أورا إت لافورا (الصلاة والعمل). تركزت معظم الأعمال اليدوية على الزراعة. وكما قال القديس يوحنا الذهبي الفم واصفاً الرهبان السوريين في القرن الخامس بأنهم «فلحوا الأرض وزرعوا الأشجار وصنعوا السلال والأكياس». وتطوروا أكثر ليسيجوا الأراضي، وزرعوا الزيتون على سفوح الجبال القريبة لمردوده الاقتصادي كما هو الحال في دير بريج. وظفوا الأيدي العاملة وقدموا تسهيلات للعمال مما ساهم بشكل كبير في التنمية الاقتصادية للمنطقة لتكبر المستوطنات حول الأديرة.
بحلول هذا الوقت، أصبح الرهبان أيضًا أبطالًا للمعرفة وأمناء على الثقافة. وانضم للأديرة فقط من كان يعرف القراءة وتلقوا تعليمًا كلاسيكيًا في أرقى مدارس الشرق، مثل الرها وأنطاكية ونصيبين. أدارت الأديرة الرئيسية مدارس دُرس فيها اللاهوت والكتاب المقدس والعلوم كفلسفة أرسطو وأفلاطون وعلماء الأفلاطونية الحديثة، وطب جالينوس، والبلاغة، والقواعد، والتاريخ، والرياضيات، والموسيقى وعلم الفلك. تكشف مصادر أدبية سريانية عن 23 مكتبة رهبانية منتشرة في جميع أنحاء المنطقة، وتخبرنا مخطوطة سريانية أنه في تل عدي في وسط كتلة الحجر الجيري للمدن الميتة “يعد هذا الدير مركزًا للمفسرين والقراء والباحثين والمتعلمين والأطباء وأصحاب الرؤى والفلاسفة”.
في الأديرة الأكبر، أنتج المترجمون والنساخ والكتبة مخطوطات زينت بألوان زاهية. نسخت المخطوطة الاستثنائية المعروفة باسم أنجيل الربولة على سبيل المثال، بلوحاتها الغنية بالزينة المؤطرة في أقواس حدوة الحصان، في دير القديس يوحنا زغبا السوري عام 586، الموجودة اليوم في مكتبة لورنزو دي ميديشي في فلورنسا. تحت الأقواس المرسومة بدقة، يوجد نص جداول القانون، وهو نظام فهرس طوره أوسابيوس القيساري في القرن الرابع للإشارة إلى مقاطع الإنجيل.
لا نبالغ هنا عندما نقول أن كل الكتب والمخطوطات المسيحية الأوروبية تحمل بصمة سورية واضحة. من جداول القانون في «كتاب كيلز» ومخطوطات ليندسفارن التي زينها الرهبان الأيرلنديون مثل القديس آيدان وصولاً إلى المخطوطات الميروفنجية أو الكارولنجية ذات المنمنمات مثل أنجيل روسانو المكتشف في خزانة كاتدرائية روسانو في كالابريا.
الموسيقى الكنسية
تُظهر الموسيقى أيضاً هذه البصمة. كتب القديس إفرايم السوري، الذي عمل مدرسًا ملهمًا تحت قيادة أربعة أساقفة في مدرسة نصيبين الشهيرة، مئات الترانيم بلغته الأصلية السريانية، والتي ما يزال بعضها يغنى بنسختها الإنجليزية حتى اليوم. اعترفت بعبقريته الشعرية الكنيسة الكاثوليكية والشرقية، كما درب الجوقات الأولى ذكوراً وإناثاً، في مدرسته في نصيبين. والترنيمة التجاوبية، المستخدمة الآن في جميع أنحاء الكنيسة بأكملها، حيث يغني رجال الدين والجماعة بالتناوب في الردود، قُدمها لأول مرة في أنطاكية الراهبان ديودور أسقف طرسوس المستقبلي، وفلافيان الأول أسقف أنطاكية لاحقًا. في نهاية القرن الرابع وصلت إلى روما على يد البابا داماسوس الأول.
من القرن الرابع إلى القرن السادس، كان السوريون يسيطرون إلى حد كبير على تجارة البحر الأبيض المتوسط. في الوقت نفسه، قاموا بتصدير زيت الزيتون والتوابل وغيرها، كما صدروا قديسيهم ورياضاتهم الروحية وطقوسهم ومدوناتهم وفنونهم وهندستهم المعمارية إلى الغرب، فتغيرت المسيحية ممارسة وفكراً. كان القديس سمعان العامودي شفيعاً للتجار فعلقوا صوره فوق أبواب حوانيتهم. وانتشرت صوره في جميع كنائس أوروبا من الفسيفساء في البندقية في كاتدرائية القديس مرقس إلى الأيقونات في متحف وارسو البولندي. وأعطى اسمه لقريتين في فرنسا. وفي إحدى الكنائس التي تحمل اسمه توجد أيقونة تصوره وهو يتلقى الطعام من التلاميذ على سلالم متكئة على عموده، وهناك نوافذ زجاجية ملونة تظهر القديس يعظ من عموده.
لم تكن صادراتهم تجارية فقط بل فكرية أيضاً. فقد تيقنوا من تفوقهم على المسيحيين الأوروبيين لاهوتياً وفنياً. أصبح أبوليناريس من أنطاكية أول أسقف وقديس رافينا في القرن الثاني، وكل أسقف رافينا اللاحق حتى بطرس الثاني في 425 كان سوريًا.

ما تزال آثارهم ماثلة أمامنا. فها هو ضريح القديس باربازيانوس، الطبيب السوري والقديس والمرشد الروحي للإمبراطورة جالا بلاسيديا في القرن الخامس. يقع ضريح الإمبراطورة في أشهر كنيسة في رافينا، سان فيتالي، وفيه العديد من الخصائص الزخرفية السورية. يضم فسيفساء سورية قديمة خلابة للراعي الصالح بقطيعه ورمز الصليب الذي يمثل المسيح في قبة السقف ذات النجوم الزرقاء.
الرموز الدينية والأعياد
كان الحمل رمزًا مفضلًا للمسيحيين السوريين، نُحت على عوارض الكنائس والمنازل في القرنين الخامس والسادس ووصلت إلى أوروبا. فهو يظهر بدلاً من المسيح في عمود في كاتدرائية القديس مرقس في البندقية. كان البابا السوري سرجيوس الأول هو الذي نشر تبجيل الصليب بين الرومان، احتفالًا بعيد تمجيد الصليب وإضافة دراما عرض بقايا الصليب الحقيقي ليتم «تقبيله والانحناء له».
قدم السوريون معتقدات جديدة وأعياد دينية في الكنيسة اللاتينية، مثل الاحتفالات المريمية الأولى، التي تمثل أيامًا مهمة في حياة مريم العذراء وعيد جميع القديسين في الأحد الأول من عيد الخمسينية (العنصرة) وتصوير حادثة الصلب.
بوردو، كغيرها من الموانئ التجارية الأوروبية، كان لها مستعمرة سورية كبيرة ومؤثرة. أحد التجار، المعروف باسم يوفرونيوس كان يملك قصراً كبيراً يتباهى بمصلاه الذي يحتوي على صندوق ذخائر القديس سرجيوس (من الرصافة في سوريا)، لدرجة أن الأسقف المحلي أراد ترسيمه ككاهن للاستيلاء على ممتلكاته. في باريس، كان السكان السوريون مؤثرين للغاية ليتمكنوا بحلول عام 591 من انتخاب رئيس أساقفة المدينة واحدًا منهم، ثم وزعوا أكثر المناصب الكنسية ربحية بين مواطنيه.
تأثر شارلمان بكنائس رافينا، وأمر اليونانيين والسوريين بمراجعة نص الأناجيل واستدعى الفنانين والحرفيين والعلماء والكتبة من السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط للعمل في كنيسته الإمبراطورية في آخن. يشهد أول رصيف أيسر في الصحن المركزي لكاتدرائية نوتردام في باريس على البصمة السورية، والذي يحمل نفس تاج أوراق قدم الدب المتماوجة كما يمكن رؤيته في كاتدرائية القديس سمعان، أشهر موقع للحج في العالم المسيحي في أواخر القرن الخامس.
اليوم، في أنقاض هذه المباني التي كانت رائعة في فجر المسيحية وبعد أكثر من ألف عام، يعيش اللاجئون السوريون النازحون بلا ماء أو تدفئة. جعلت الحرب السورية المستمرة، التي دخلت عامها الثاني عشر الآن، السفر إلى منطقة المدن الميتة شبه مستحيل على مدار العقد الماضي. تتنافس الطائرات المقاتلة التركية والروسية والسورية للسيطرة على السماء، مع القصف الجوي المنتظم للأطلال القديمة نفسها على الرغم من وضع التراث العالمي لليونسكو الذي حققته في وقت متأخر في يونيو 2011، بعد ثلاثة أشهر من بدء الحرب. والأمر المقلق هو أن الخطر الذي يواجهه السكان ليس من الخارج بل من حكومتهم نفسها، مع وجود عائلة الأسد في السلطة منذ عام 1970. فر الملايين كلاجئين إلى البلدان المجاورة وخارجها، بما في ذلك أوروبا.
وتختتم دارك بسؤالها عن نهاية الحرب لتعود الحياة في تلك المنطقة إلى طبيعتها ليتمكن الأوروبيون من السفر مرة أخرى لزيارة مواقع مثل البارا وسرجلة ورويحة؟ لا أحد يعرف الإجابة، ولكن في غضون ذلك، يمكننا على الأقل تسليط الضوء على أهمية هذه المستوطنات المسيحية المبكرة المنسية وكنائسها. يمكننا أن ندرك المساهمة الهائلة التي قدموها هم وسكانهم الأوائل لتقاليدنا الثقافية والدينية في الغرب ونصلي من أجل أن يتمكن الحجاج، المسيحيون والمسلمون، في يوم من الأيام قريبًا من العودة وتجربة الروابط المسيحية العميقة الجذور التي تشهد عليها سفوح التلال التي تظللها الكنيسة.
أضف تعليقًا